د. رضية بنت سليمان الحبسية
أستاذ الإدارة التربوية المساعد بجامعة نزوى
يُقال "فُلان يَحْمِلُ فِكْرًا"، بمعنى أن يكون ذا نظر ورؤية. وما أجمل أن يوسم الفرد بسمات يُعرف بها، وتُؤخذ عنه، وتكون له بذلك قناعات يعتنقها، فتكّون توجهاته قولًا وسلوكًا، كما يؤمن بفلسفة معينة، يتخذها لحياته منهجًا ومسلكًا، وينأى بنفسه من أن يكون فاقدًا للهوية الفكرية، أو أن يكون نسخة كربونية.
وبالمقابل، فإنَّ التعصب لرأي أو فكرة، يُفضي في حالات كثيرة إلى الوقوع في الضلال، وسوء تقدير القضايا، والنظر من زوايا بعينها للشخوص، والظروف، والغايات، بما يجعل الفرد متأرجحًا في قراراته، متذبذبًا في مواقفه، غير واثقٍ من نفسه، مهزوزًا في ذاته، فاقدًا للحكمة وحسن التصرف، أو براعة التصريح.
وهناك كثير من المواقف التي تحدث في الحياة العامة، وفي بيئات العمل، أو في البيئات الافتراضية، يجد الواحد منَّا مُضْطَرًا لأن يتنحَّى بنفسه من الخوض في سجالات عقيمة، وإن كان متيقنًا أنه على صواب، وذلك لاعتبارات شخصية، أو مجتمعية، فيرتقي ويسمو بفكره، معتصمًا بأخلاقه، معتزلًا بمبادئه، حفاظًا على أواصر الألفة، وإبقاءً لوثاق الأخوة، واستمرارًا لروابط الزمالة، فتجنب التمسك بالرأي حكمة، لا ضعفًا ولا انهزامًا، فالوسطية دبلوماسية، في زمن التشدق والغلو، كي لا يقع العاقل في دائرة الإمعّة أو مغبة الفتنة.
وفي حقيقة الأمر، ليس كافيًا أن يكون الفرد ذي قدرات عقلية عالية، أو يمتلك معارفًا واسعة، حتى يُكّون لنفسه فكرًا مستقلًا، أو يَكُون شخصًا متفردًا. فإنْ يحمل الإنسان فكرًا، عليه إعمال عقله، وتوظيف معلوماته، في فهم واقعه، وتفسير أحداثه، مُنْغَمِسًا في تلك العملية، مُسْتَشْعِرًا تفاصيلها، ليكّون صورًا ذهنية، في إطار من الحقائق المثبتة بالأدلة، فتتشكّل لديه منظومة متكاملة من المفاهيم الحياتية، تُبعده عن الوقوع في الخطأ، أو الدخول في دوامة الأوهام.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف يمكن أن يكون الفرد صاحب فكر ورؤية؟
الإجابة على هذا السؤال، تقودنا إلى أهمية امتلاك الفرد لمهارات عدة، يأتي في مقدمتها مهارة التفكير النقدي، والتي لا يمكن أن تُكْتَسَب بالصدفة، إنما تتطلب عمليات مُعايشة، وأساليب متنوعة من التنشئة، تمكّنه من التعامل مع الحالات والظروف بمرونة، بعيدًا عن قولبة التفكير.
ولكي يتجنب الفرد حصر نفسه في أنموذج بعينه من التفكير، عليه توسيع مداركه، والإطلاع على وجهات النظر المتعددة، وتوظيف نوعًا من المحاكاة العقلية، دون تحيز أو ذاتية، فإما أن يثبت صحة مفاهيمه، فيرسخها، أو أن يتأكد من خطأها، فيدحضها، وليس في ذلك عيب ولا نقصان.
وفي هذا المقام، نُشير إلى أهمية الخلفية الفكرية التي تتشكّل لدى الفرد بتشكّل شخصيته عبر مصادر متعددة من وسائط التنشئة الاجتماعية، خلال مراحله العمرية، وتأتي في مقدمة تلك المصادر: الأسرة والعائلة، صغيرة أو ممتدة، فبما تتصف به تلك العائلة من خصائص وخصال، يتم تناقلها جيلا بعد جيل، تقليدًا أعمى، أو تربيةً مقصودة، فَتَعْرِف كينونة كل فرد ينتمي إلى تلك العائلة، من مواقف ليست بالضرورة أن تكون عديدة، لذا تقع المسؤولية الأولى على الوالدين في تكوين إطار مفاهيمي متكامل، يؤطر أساليب التعامل داخل الأسرة، ومع الآخرين، مع مراقبة نمو أبنائهم، والإحاطة بكافة المؤثرات الخارجية، التي يمكن أن تلعب دورًا محوريًّا في تربيتهم، والعمل على توجيههم للالتزام بمبادئ ذلك الإطار العائلي المُقدّس.
كما تمثل المؤسسات التعليمية باختلاف مراحلها مصدرًا قويًّا، في تكوين الشخصيّة السويّة للفرد، من خلال مناهجها وبرامجها، التي ينبغي أن يكون تصميمها مراعيا لخصائص المرحلة العمرية، وتنوع الظروف البيئية، وكذلك التغيرات العالمية المتسارعة، في ضوء مرتكزات وثوابت، لا يختلف عليها اثنان، باختلاف الزمان والمكان، مع المداومة في غرس القيم المجتمعية لدى مخرجاتها التعليمية.
وتأتي مؤسسات الإعلام على تنوع مجالاتها وتقنياتها، لتؤدي دورًا مهمًا في التوعية المجتمعية، وبث أصول التربية بين عناصر المجتمع على اختلافه وتنوعه، توظيفًا لتقنيات الذكاء الاصطناعي واستغلالًا لمعطيات الثورة الصناعية الرابعة، لتخاطب جيل اليوم بوسائط العصر، بما يتناسب والعالم الذي يعيشون فيه، دون إفراط أو تفريط، فيتم توجيههم للحياة بوسطية، وقبول التعددية، دون ذوبان في ثقافات خارجية، أو التشدق بآراء شخصية.
ولا يمكن تجاهل الدور العظيم للمؤسسات الدينية، في توجيه أفراد المجتمع، وإرشادهم إلى ضرورة التمسك بمنظومة القيم، والحفاظ على موروثات المجتمع، لينشأ أفراده في بيئة صحية سويّة، يمتلك منسوبوه مهارة التكيف مع المتغيرات المحلية والعالمية، والقدرة على تحليل واقعهم بمنطقية، بما يمكّنهم من الحوار العقلاني المتسامح، وبالتالي إمكانية إعادة النظر في معتقداتهم الفردية، التي يمكن أن تكون قاصرة أو مغلوطة، بما يعكس الفكر الذي يحملون، بلا ضرر ولا ضرار، من أجل فرصة للتعايش السلمي بين أبناء المجتمع الواحد.
ختامًا.. استنادًا على ما تقدم، نؤكد ضرورة تكاتف كافة مؤسسات المجتمع المحلي، والعمل بشراكة مجتمعية؛ لأجل تنشئة أفراد المجتمع، وفق منظومة قيمية، تستوعب المتغيرات العالمية، ورفع مستوى الوعي والإدراك لديهم، لتحقيق تنمية مستدامة في أبعادها المختلفة: البيئية، الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية، تلبية للمتطلبات المستقبلية، وتطوير الواقع الفعلي لمختلف المجالات الحياتية، مع الحفاظ على خصوصية المجتمع الثقافية والحضارية.