الغربُ يتقلَّص: الدروس المستخلصة

 

د. صالح الفهدي

بعد أن كمَّم أفراد المنتخب الأَلماني أفواهه احتجاجًا على عدم السماح بالتعبير عن مساندة الشذوذ الأَخلاقي في كأس العالم بقطر، بعد ذلك بفترةٍ قصيرة أَعلنت ألمانيا أنها بحاجة إلى مليون مهاجر!! وقد جاء ذلك تطبيقًا لما قاله المستشار الألماني أولاف شولتز في ديسمبر 2022: "إن ألمانيا يمكن أن تزيد عدد سكانها كثيرًا في الأعوام المقبلة؛ إذ تسعى الحكومة إلى تعزيز الهجرة؛ للمساعدة في تجنب نقص العمالة وأزمة في نظام المعاشات التقاعدية".

ما العلاقة إذن بين تكميم الأَفواه والحاجة إلى المهاجرين؟! السياسة التي يتبعها الغربُ وألمانيا في صدارته هي انحراف الفطرة الإِنسانية، وشيوع الشذوذ الجنسي الذي يعني توقُّف السلالة البشرية في مجتمعاته، فالزواجُ الطبيعي أصبح نادرًا، والأُسرة أصبحت شيئًا من الماضي، وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى نقص السكَّان بأمرين: تفشِّي الشذوذ، وشيخوخة المجتمع.

وجود رئيس وزراء بريطانيا من أصول هندية، ورئيس وزراء إسكتلندا من أصول باكستانية يشكِّل مفارقة تاريخية من جهة أن بريطانيا كانت تستعبد هذه الشعوب التي انحدر منها رئيسا الوزراء المهاجرَيْن، لكن من جهةٍ أُخرى هو مؤشِّرٌ على أنَّ الرؤوس المهاجرة قد بدأت تطلُّ من كراسي السلطة في الدول الغربية بغضِّ النظر عما يُزعم أنه بسبب الديمقراطية، لأن هذه الدول لا تملكُ خيارات استبعاد المهاجرين نظرًا لتقلُّص أعداد السكَّان الأَصليين.

الدوريات الرياضية في أوروبا تزخر باللاعبين المهاجرين ومنهم المسلمين، ولهذا فلأول مرة تسمح بريطانيا بالسماح للأعبين المسلمين بتناول إِفطار سريع أثناء مباريات الدوري الإنجليزي، الأمر الذي يدلُّ على أَنَّ ثقافة جديدة بطابع إِسلامي قد بدأت تفرضُ نفسها على هذه المجتمعات.

في أمريكا، أقسمت أول قاضية مسلمة على القرآن بعد تعيينها قاضية في السلطة القضائية، وفي الكونجرس سبقتها نائبتان مسلمتان من أصول فلسطينية وصومالية.   

تأكيدًا لما سبق، فقد ألَّف المفكر والسياسي الأمريكي باتريك بوكانان كتابًا بعنوان "موت الغرب" حذَّر فيه من انقراض الحضارة الغربية، فقد أصبحت هذه الحضارة تواجه خطر الانقراض والفناء لصالح أمم أخرى؛ ويبيِّن بالأرقام تقلُّص الشعوب الأوروبية التي ستغدو أقلية في القادم من السنين في أوطانه الأصلية.

ويدعم بوكانان كتابه بمجموعة من الإحصائيات المرعبة معتمدًا على التقارير الصادرة عن وكالة الاستخبارات المركزية، وتقارير الأمم المتحدة، وبعض الدراسات الاستشرافية، حيث يتوقع الكاتب أنَّهُ من المرجح أن يصل عدد سكان العالم في عام 2050 إلى 9 مليارات نسمة جلهم من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، في حين سيختفي 100 مليون أوروبيًا من على وجه المعمورة، أي أن أوروبا البالغ عدد سكانها 728 مليونًا عام 2000، من المتوقع أن ينكمش العدد إلى 600 مليون بحلول عام 2050 وفقًا لتقرير السكان الصادر عن الأمم المتحدة في 28 فبراير 2001. ويشير الكاتب أيضًا إلى أن معدل الخصوبة عند المرأة الأوروبية قد انخفض إلى 1.4 علمًا بأن المطلوب 2.1 كحد أدنى لتعويض الفاقد عن الوفيات والمحافظة على توازن المجتمع. ويشير الكاتب إلى أنَّ هنالك سبعة عشرة بلدًا أوروبيًا تقام فيها جنازات الدفن أكثر من احتفالات الولادة، وتحمل الأكفان أكثر من الورود..!

يكتبُ الغربُ مصيرَ انقراض حضارته بيده وذلك عبر سبيلين: الأول: جفاف الخصوبة فلا زواج ولا أُسرة ولا نسل، والثاني: موت أخلاقه؛ حيث يؤدي به الشُّذوذ الذي يعدُّهُ من حقوق الإِنسان وحرياته إلى زواجات الجنس الواحد، وكلُّ ذلك يعبِّرُ عن إِنفلات الحريات من ربقة العقل، يقول بوكانان: "إن الثقافة الجديدة ترفض الله الذي جاء في العهد القديم، وتحرق بخورها على مذبح الاقتصاد العولمي، وقد غدا الجنس والمال والشهوة والسلطة هو كل ما تبحث عنه أمريكا وتدور حوله".

ما نستخلصه من دروس من حالة الغرب الراهنة الآتي:

أولًا: أَن حملة الشذوذ الشعواء التي يستميتُ الغرب لأجل فرضها على الأُمم الأخرى إِنما ستؤدى قطعًا إلى انقراضِ حضارته، والشواهدُ واضحةٌ للعيان.

ثانيًا: الإنسلاخ الأخلاق يعني اضمحلال الحضارة، يقول الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724-1804م): أنه ليست الأديان فقط، وإنما العقل أيضا يفرض على الناس واجبات أخلاقية.

ثالثًا: أنَّ الفضاء أصبح مفتوحًا أمام المهاجرين ومنهم المسلمين في تبوء مناصب عُليا في السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في البلدان الغربية، في المقابل فقد برز العديد من المهاجرين في المؤسسات الحكومية والخاصة والمجتمعية وفي مواقع مهمة جدًا.

رابعًا: أننا يجبُ أن نتعلَّم دروسًا مما يحدثُ في أوروبا وأن نكون على وعي كامل بما يحدقُ بنا من أخطار محدقة تستهدف إضعاف العقيدة الإِسلامية، وإفساد الأخلاق، وفي مواجهة ذلك علينا أن نعزِّز من قيمنا الأخلاقية.

خامسًا: نستبشرُ خيرًا مما يحدثُ من تغيُّرات سياسية واقتصادية وأخلاقية في العالم، فعلى الصعيد السياسي والإقتصادي يشهد العالم تغيُّرات ضخمة ونشوء أقطاب جديدة تتحرَّر من هيمنة القطب الواحد، أما على الصعيد الديني الأخلاقي فقد برهنت المؤشرات على أنَّ الإسلام هو أسرع الديانات انتشارًا في الغرب، وهذا هو مصداقٌ لقول الحقِّ سبحانه وتعالى: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون"َ (الصَف: 9).