التحيات لله‎

 

أنيسة الهوتية

"التحيات لله"، عبارةٌ يرددها المصلون يوميًا لتسع مرات في فرائضهم أو ما يزيدون في سننهم ونوافلهم والوتر، ولكن لا يشعر بهيبة وفخامة مقامها إلا الخاشعون في صلاتهم خشوع طاعة وشكر وحمد وتبجيل لله وحده لا شريك له وهم المشتاقون لإقامة الصلاة للوقوع بين يدي خالقهم جلَّ جلاله والحضور في مجلسه العظيم بين حضرة الملائكة مفتخرا بدعوته وحضوره، فيتقدم إلى عرش الملك الأعظم فيسمح له فيها بتوجيه التحية له سبحانه قائلًا بصوته: "التحيات لله" وهو خافضٌ رأسه أمام عظمة الله وعظمة حبه سبحانه لهذا العبد العاشق لربه المُتيم بعبادته.

فيا لجمال الحب الأثيري المتبادل بين الخالق والمخلوق الذي تجلى في هذه الصورة الرائعة من البركة والعطاء منه سبحانه، فإنه جلَّ وعلا لم يرزق هذا العبد فقط بركة إقامة الصلاة وعدم فواتها؛ بل رزقه مع بركة إقامة الصلاة لذة أدائها ولذة أداء التحية الجلية له سبحانه .. الله، الله، الله، يا لهيبة المنظر والشعور أن نكرم بتوجيه التحية ويسمح لنا بدخول المجلس العظيم للملك الأعظم ونحن نشعر بذلك في كل قطرة دم تسري في عروقنا وبكل شعيرة من أحاسيسنا بأننا في حضرة الله، وإنه قد سمح لنا بأن نكون في حضرته بهذا الخشوع والخضوع واللذة العظيمة في العبادة التي لم ألتمس لذةً أخرى أعظم منها في الحياة.

وبعد الانتهاء من صلاتك التي لم تشبع منها وتتمنى ألا تقوم عنها، ولكن اضطرارًا لأنَّ الحياة الدنيا فيها الكثير من الامتحانات التي لم تنتهِ بعد، ما دمنا على قيد الحياة؛ فبالتالي هناك الكثير من التجهيزات والمذاكرة لهذه الامتحانات والواجبات والحقوق التي يجب أن نؤديها. وفي النهاية فإن العيش في الحياة لتسيير حال المعيشة أيضًا صورةٌ من صور العبادة، والنوم الذي هو حقٌ علينا لأبداننا أيضًا عبادة، والأكل والشرب بالمعقول عبادة، والتواصل مع الناس لمن استطاع إليهم سبيلا أيضًا عبادة، تشعر بأنك قد ولدت من جديد، وبأنك طائرٌ على غيمة بيضاء تطلع من عليها على حالك من بعيد! ومهما رأيت حالك وهي تتعارك وتتصارع مع المصاعب، والمتاعب، والمشقات، وغيرها الكثير.. فإن وضعك وأنت على تلك الغيمة سيهون الأمر على نفسك وحالك وجوارحك وقلبك الذي خشع في محبة الله وأصبح لا يشعر بشيء آخر سوى تلك المحبة في هذه الدنيا، يعيش طاعةً، ينام طاعةً، يأكل ويشرب ويلبس طاعةً ولا يهمه شيء آخر، وإن كان مُرًا كمرارة الحنظل والعلقم، وإن كان شديدًا كشدة وقساوة الحجارة، وإن كانت تلسع كالنيران التي تحرق جوف الإنسان من قهر وظلم واستبداد وغيره الكثير، أو فقد أو موت وما شابه!

ستؤمن بأن الملك الأعظم في هذا الكون والذي أكرمك بلذة توجيه تلك التحية لمقامه الأجل والأرفع شأنًا في ملكوت السماوات والأرض، وفي حضرة الملائكة الكرام المسبحين له في عرشه جل جلاله، سيكرمك بما لم تتوقع ولم تتخيل من خيرات خزائنه التي لا تنفد، فإن كان قد رفعك إلى هذه الدرجة من الروحانيات بعطائه وكرمه ورزقه، فأعلم أنه سيكرمك بالأكثر عاجلًا أم آجلًا دون أدنى شك، وإن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة لا محالة بإذنه تعالى.

وعندما يصل الإنسان إلى تلك المرحلة العليا من الروحانيات سيجد نفسه خجلًا حتى من الدعاء والطلب وهو بين يدي سبحانه بعد الانتهاء من صلاته، ستكون هناك مئات الأشياء التي يتمناها وكانت تدور بباله ولكن يستحي أن يمد يديه ويطلب من ربه.. فيكتفي بدعائه ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.