الشيخ حمد بن عيسى الطائي.. قبسات من السيرة

ناصر أبوعون

في السنة الثالثة والثلاثين بعد ألف وتسعمائة من الميلاد، شقّ صراخ الشاعر حمد الطائي بطن الليل في كنف والده الشيخ عيسى بن صالح بن عامر قاضي قضاة مسقط وكبير مستشاري "سلطان دولة مسقط وعمان"؛ فلما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها ارتاد الشيخ حمد بن عيسى الطائي المدرسة السعيدية، حتى إذا ما انقضى زمن الدرس، وأضحى فتيًا قابضًا على معجم اللغتين العربية والإنجليزية، وقع الاختيار عليه ليعمل تُرجمانا في قوات السلطان سعيد بن تيمور المسلحة.

الشاعر الشيخ حمد الطائي.jfif

ثم انتقل الشيخ حمد بن عيسى الطائي بعد فترة وجيزة وبتزكية من صاحب السمو السيد طارق بن تيمور- المغفور له بإذن الله- إلى "جوادر" عام 1956م بصحبة كتيبة من قوات السلطان المسلحة، والتقى الوالي عليها السيد هلال بن سعود بن حمد البوسعيدي، واستقرّ به المُقام مُترجمًا في القنصلية البريطانية هناك لمدة عامين كاملين. ولأنَّ أقدار البشر مفتولة ومتضفرة في أرجاء المدن، فقد خرج الشيخ حمد بن عيسى الطائي من "جوادر" في العام 1958، وعاد بأهله إلى عُمان ليتسلم العمل مترجمًا عسكريًا تابعًا للجيش السلطاني في ولايتي «فهود» و«الدقم».

ثم تطوح به الأقدار فحمل عصاه، وجهّز زادا وراحلة وولّى وجهه شطر المملكة العربية السعودية، بـمحافظة «الخُبر» من المنطقة الشرقية ونزل في ضيافة الشيخ محمد بن عبد الله السالمي (الشيبة)، ولأنَّ كل إنسان يحمل قدره فوق كتفيه فلم يطُل المقام بالشيخ حمد الطائي هناك إلا نزرا يسيرا من الزمن، فقد انطبعت شخصيته على حب المُغامرة والسفر، فارتحل إلى «البحرين»، ونزل بمنطقة «القضيبية» قُرب "جامع الزيّاني"، وكان ابنه سعود يومها لم يتجاوز السنتين، واستقرّت به الحال هناك، وطاب له المقام فيها.

وهناك تعرّض لمحنة واحتبست حريته، غير أن النصر كان قرينا له؛ فلم ينقطع المدد الإلهيّ عن مباركته، ولم تنفصم عروة الرعاية الأسرية عن مؤازرته، وتكللت مفاوضات شَابين عُمانيين (شامس العامري، ومبارك الهاشمي)، - وكانا منتسبين حينها إلى جهاز الشرطة البحرينية - بالإفراج عن الشيخ حمد شريطة إبعاده عن البلاد، وكان له خيار التوجّه إلى أي قُطر خليجيٍّ تأنس إليه روحه، وتستهويه نفسه؛ ويطوي فيه صفحة الليالي الداجية، ويبدد الظلمة الساجية في محبسه؛ فوقع اختياره على (دولة قطر) فدخلها آمنًا تحت راية حاكمها (الشيخ أحمد بن علي آل ثاني)، وهناك لم تهنأ نفسه وضاقت عليه حلقات الدهر، فارتأى أن يرتحل إلى الساحل الشرقي لعُمان فأهله أقرب وشيجةً وأرحاما؛ فكانت (دبي) مقصده.

فلما نزل مع أولاده مع حداثة عهدهم بـ"دبيّ" اكترى منزلا بـ"سكة الخيل" وجاور (منصور وسعود ومبارك السليمي)- صاحب محل الحلوى العمانية الأكثر شهرةً في دبي والذي ما زال فاتحًا أبوابه إلى اليوم- يأنس بوصلهم، ويصل أرحامهم، وتنشرح به صدورهم، ومازالت الصلات بين العائلتين معقودة حتى من بعد رحيله إلى الدار الآخرة وعلى تواصل مع جارهم وصديقهم (علي السيد) وحبل وصلهم به ممدود.

واصل الشيخ حمد الطائي العمل بالليل بالنهار في دبي، وجالس الأكياس العقلاء، وفتح الله عليه فتوح العارفين، فكان المدير العام لـ(شركة معدات الخليج) ما بين عامي (1963- 1968) خمس سنوات بالكمال والتمام قضاهن الشيخ مديرا عاما في شركة مواد البناء الكويتية المملوكة لتاجرين من الكويت هما: (جاسم القطامي والخنيني)، وكان حسن السيرة، سهل المعشر فوصل خبره إلى (الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم إمارة دبي)، على لسان أحد المُستشارين الأصلاء وهو الفاضل (أحمد بن سلطان بن سليم الأديب) فأنعم عليه بقطعة أرض في "المرقبات" وابتنى الشيخ حمد بن عيسى الطائي دارًا وسط رَبْع واسع، وهناك أنجبت له حليلته العروب الولود الصبور؛ ثلاث فلذات أكباد زاهرة هم: (صقر وناصر وخالد).

فلما ذاع صيته في الجد والأمانة، وحسن الإدارة والنباهة، ومعرفته بالفنون والآداب، واتساع ثقافته وتنوّع معارفه، تمّ استدعاؤه إلى إمارة أبوظبي عام 1968 ليعمل مستشارًا في دائرة الاقتصاد والمالية لمدة عامين في معيّة (الوزير محمد حبروش السويدي نائب رئيس الديوان الأميري، ثم مستشارًا له في رئاسة دائرة المالية، ومعوانًا أمينًا عندما استوزروه للشؤون المالية والصناعة عام 1970).

وقد أقام الشيخ حمد الطائي هذه الفترة في (بناية درويش بن كرم) بشارع (الشيخ حمدان بن محمد)، وكان مقدمه على أبوظبي فاتحة خير على شعوب حاضرة الخليج؛ حيث اجتمع المرحومان (الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والمرحوم الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم) في أوائل شهر فبراير من عام 1968م، تمهيدًا لإعلان الاتحاد، وأعقب هذا الاجتماع دعوة مشتركة من الشيخين لمشايخ سائر إمارات الساحل الشرقي في (دبي) لثلاثة أيام متتالية (25 و26 و27 فبراير 1968)، تمّ بعدها الإعلان رسميًا عن قيام دولة الإمارات العربية المتحدة في الثاني من ديسمبر عام 1971.

وفي يوم التاسع من أغسطس عام 1970 خرج السلطان قابوس بن سعيد- طيّب الله ثراه- على الشعب العُمانيّ داعيًا الجميع إلى العودة إلى البلاد للمشاركة في مسيرة البناء والتنمية، آمِرًا «رئيس الوزراء السيد طارق بن تيمور- جعل الله الجنّة مقره ومثواه- أن يتخذ الخطوات الفورية لتشكيل حكومة على أساس إسناد المناصب للمواطنين اللائقين حيثما وُجِدُوا، في الداخل أو في الخارج». وبعد وصوله إلى مسقط وقع الاختيار عليه ليتولى مسؤولية (دائرة العمل) كنواة أولى لتطويرها لتصبح وزارة فيما بعد، فأدارها بكفاءة، بضع سنين، ولم يكن من الموظفين معه في الدائرة سوى ثلاثة فقط وهم (محمد يوسف) و(داود علي عمر) و(حمد بن مبارك المعشري)؛ ثم تتابعت التعيينات في دائرة العمل فعُيِّنَ (الشيخ شماس بن حمود البطاشي، وعبد الرحمن البلوشي من حارة الشمال، وعلي بن مسعود الريامي، وأحمد بن ناصر الرحبي، ونايف عبيد السلامي).

 

فلمّا عزم السلطان قابوس- طيّب الله ثراه- على إنشاء (المطابع السلطانية)؛ لم يجد غير الشيخ حمد الطائي لهذه المهمة لقد كانت بدايات عصر النهضة تُوجف بولي الأمر وحكومته إلى التبديل والتغيير سراعًا بغرض التطوير والتحديث؛ فقد ارتأوا استبدال مسمى (المطابع السلطانية) بـ(المطبعة الحكومية)، وصار الشيخ حمد مديرا عاماً لها، فتوسعت المهام والأنشطة، ولم يكن من الأمر بُدٌّ في التشمير عن ساعد الجد.

ولأن الشيخ لديه خبرة طويلة في مجال الاستثمار، وإدارة الشركات تحصّل عليها ما بين إمارتي (دبي- مديرًا لشركة مواد البناء الكويتية)، و(أبوظبي- مستشارًا بوزارة المالية)، وقد قرأ صفحات مستقبل سلطنة عُمان المفتوحة في كتاب الأمم المتقدمة، وما تحمله للشعب العمانيّ من انفتاح اقتصادي على العالم، وتواصل حضاري مع سائر الثقافات؛ فارتأى أن يؤسس (مجموعة شركات استثمارية عابرة للحدود ومتعددة الأنشطة)؛ تحت علامة تجارية شهيرة ذات خلفية تاريخية وتراثية فاختار اسم "الفيحاء"، إشارةً إلى موطنه ومسقط رأس آبائه وأجداده.

غير أنه لم يكن مسموحًا آنذاك للموظفين بتأسيس أعمال تجارية خاصة فبدأ بتأسيس مكتب صغير يتكون من حجرة واحدة في ولاية مطرح بجوار "سوق السمك" واستوظف صديقًا أردنيًا ليقوم بدور مدير المبيعات؛ وهو الفاضل مأمون الجندلي، كان قد التقاه واختلط به وخبر صفاته أيام اغترابه في دبي، وانضم إليه لاحقًا الفاضل حمد بن مبارك المعشري لاحقًا على أن يتولى "دائرة التحصيل".

ثم بدأت شركة الفيحاء المملوكة للشيخ حمد الطائي تتوسع في نشاطها بتجارة الأسمنت والحديد ومواد البناء، فأسست مقرًّا لها مطلة على منطقة واسعة مترامية الأطراف في (روي) مقابل "سوق الوادي الكبير"، ولمّا توسعت أعمالها، استأذن الشيخ حمد- رحمة الله عليه- السلطان قابوس بن سعيد- طيّب الله ثراه- في مُغادرة الوظيفة الحكومية والتفرّغ لريادة الأعمال، وتطوير شركة تجارية كبرى ذات أذرع تنموية تخدم السلطنة، وتفتح الآفاق لبناء قطاع خاص وطني.

وفي العام 1977، توسعت أعمال البناء والتشييد في سلطنة عُمان، وبدأت الدولة تقطع رؤوس الجبال، وتسوي الهضاب والتلال لشق الطرق، وتوزيع الأراضي على المواطنين بدأت تدخل إلى السوق شركات تعمل في قطاع المعدات الثقيلة؛ فعرضت (مجموعة الفيحاء)، اتفاقية شراكة استراتيجية مع (شركة الواحة للمعدات الثقيلة (كاتر بلر)، والتي كان الشيخ سعود بن علي الخليلي- رحمة الله عليه- يمتلك فيها حصة مقدارها 49 بالمئة و6 في المئة للشيخ حمد بن عيسى الطائي، و45% لصالح "مجموعة البحر الكويتية" لتساهم في تنمية وإثراء هذا القطاع المتنامي.

ومع بداية عقد الثمانينيات من القرن العشرين اقتحمت (الفيحاء) السوق الخليجي، ودخلت في شراكات استثمارية مع مجموعة كويتية لتتخصص في استيراد (اللحوم الحيّة والماشية) لصالح السوق الخليجي، بالتعاون مع دول عديدة كانت في مقدمتها (جمهورية الأرجنتين)، ثم (أستراليا) لتوفير اللحوم بأسعار رخيصة تتواكب مع الزيادة السكانية المتنامية فهيأت الفيحاء أراضٍ زراعية واسعة لاستزراع نباتات وصناعة أعلاف الماشية، وابتنت حظائر ومسالخ على مساحة من الهكتارات الواسعة في: (صحار) و(مسقط)، و(الجفنين)، و(إبراء) و(نزوى) وأثثت متاجر لبيع اللحوم توزّعت على سائر الولايات العُمانية، واتسعت رقعتها وازدهرت وتنامت أرباحها، وعلا شأن أصحابها، وطارت قصصهم فعمّت الآفاق، وانتشرت أخبارها في سائر الأسواق.

وجدير بالذكر أنّ الشيخ حمد الطائي ترأس وفودًا عمانية عديدة من أعضاء غرفة تجارة وصناعة عمان في رحلات خارجية للاستفادة من خبرات الدول الغربية والعربية في مجال الاستثمار، نالت إعجاب السلطان قابوس- طيّب الله ثراه- وحكومته الرشيدة، وتوجت هذه الرحلات في عالم المال والأعمال بحصوله على الوسام السلطاني.

ولأنَّ أنفاس المرء ليست إلا خُطاه إلى أجله، فقد نقض قدرُ الأملِ مع الشيخ حمد الطائي بعهده، وأوقدت سَوْرَة المرض شعلتها في جسده، وقَدَّتْ نيرانُ الأوجاع من دُبُرٍ قميص راحته، ووكزته الآلام في الحشا فاصطبر عليها، ووِقَمَه الوهن في روحه، وحمشت ذبالة ثورتها في هدأة نفسه الراضية، وفي النصف الأول من عقد تسعينيات القرن العشرين شدّ الرحال إلى الغرب طلبًا للعلاج، فترددت خطواته ما بين بريطانيا وأمريكا، واستقرّت به الحال في مستشفى "مايو كلينيك" الأمريكية، وقد جمعت الأقدار بينه وبين العاهل الأردنيّ الملك حسين فتقاسما شطر الأدواء نفسها؛ غير أنَّ الشيخ كان رابط الجأش يروح ويجيء بين موظفيه، لا يُظهر تبرمًا، ولا يُبدي وجلًا، ولا يشكو نَصَبًا، حتى قضى نحبه، واستردَّ الله وديعته على مشارف نهاية الألفية الثانية في اليوم الثاني من شهر مارس عام تسعة وتسعين بعد تسعمائة وألف من الميلاد؛ يوم الثلاثاء الرابع عشر من شهر ذي القعدة في العام التاسع عشر بعد أربعمائة وألف من الهجرة.

يقول العارفون: «فمن شاء الأثر قدَّم له المسير، والمسير الذي يُذكَر ويؤثّر ويرتفع حقًا ولو لم نشهده عيانًا»، والشيخ حمد الطائيّ كان له خبيئة مع الله، لا يطلع عليها ذوي القربى، وإن خبرها بعض الخواص، فقد حسنت طويته، وازدانت سيرته، وشهد له المقربون من غير أهله بأنه كان يعطي من مال الله الذي آتاه عطاء من لا يخشى مغبّة الفقر، وعندما يستفيض إليه المعوزون لا يزع يده حتى ينصرفوا راضين، ويصبر على العمال الكادحين وإن تمادوا في أغلاطهم وكان شعاره "قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق"، وكان من علامات حسن خاتمته أن صلّى عليه جمع غفير وتطاولت الصفوف، وتضامت الأكتاف، وتعددت الأجناس والأعراق خلف العلامة التقيّ الشيخ أحمد بن حمد الخليلي مفتي عام سلطنة عمان في صلاة الجنازة عليه، وغشيت الموقف الرحمة والسكينة، بمقبرة العائلة في بوشر، وهطلت الأمطار مشوبة بنسمات الهواء العليل واستمرت لأيام ثلاثة؛ مصداقًا لما ثبت في كتاب "سير أعلام النبلاء 21/156" «أنه متى مات مَنْ له مَنْزِلة عند الله فإنَّ الله يبعث سحابا يوم موته علامة للمغفرة له، ولمن صلّى عليه». وجاء في باب علامات حسن الخاتمة «لما مات أبو موسى المديني لم يكادوا أن يفرغوا منه، حتى جاء مطر عظيم في الحر الشديد وكان الماء قليلًا بأصبهان فما انفصل أحد عن المكان مع كثرة الخلق إلا قليلا».

رحم الله الشيخ حمد بن عيسى الطائي، وطيّب ثراه، ووسّع مدخله، وطوى له الصراط فاجتازه إلى النعيم والجنات.