مرباط.. تاج المدائن

د. محمد بن عوض المشيخي **

الحديث عن مدينة مرباط، وإرثها العريق ومجدها التليد، عبارة عن ركوب في قطار التاريخ الذي يعرج بحامله إلى ما لا نهاية.. إنها رحلة العبور إلى أعماق المحيط من حيث غزارة الشواهد الأثرية والحضور المادي إلى أصالة هذه المدينة وكنوزها الحضارية، وعبق ماضيها الذي يحكي قصة فريدة من التاريخ الإنساني.

لم يتمكن المؤرخون وعلماء الآثار حتى هذه اللحظة من الإحاطة والاطلاع على كل تفاصيل قصة هذه المدينة، التي حجزت لنفسها- بلا منافس- السبق والريادة على مساحة بارزة وركن مميز على الخارطة الجغرافية لسلطنة عُمان؛ بل وحتى حضورها فرض نفسه للتواجد على نطاق واسع في المتاحف الوطنية العمانية، لم لا ومرباط التي يستنشق سكانها بخور اللبان الحوجري الذي تنمو أشجاره على مقربة من سلسة جبال سمحان ويعيشون في كنفه وعلى مقربة منه؛ حيث يمتد هذا الجبل بين ولايتي سدح ومرباط، ويشاهدون كل صباح المعالم التاريخية لـ"أم المدائن" كما يحلو للبعض تسميتها. من هنا، لا يذكر اسم مرباط إلا بالإشارة إلى سمحان، هذا الجبل الشامخ الذي يشكل حماية من الرياح في موسم الشتاء وسدًا منيعًا للغزاة عبر التاريخ، وذلك لـ"تاج المدائن" من جهة الشمال. فكان سمحان عبر التاريخ بارتفاعه الذي يبلغ أكثر من 2100 متر عن سطح البحر، مصدر فخر واعتزاز لسكان هذه الولاية؛ إذ يستمدون قوتهم وشموخهم من هذه السلسة التي تعد واحدة من أعلى القمم ارتفاعًا في جنوب شبه الجزيرة العربية.

ويستمر الحديث عن الماضي بما يحمله من إرث فكري إنساني خالد، والحاضر بما يقدمه من إنجازات ثقافية واقتصادية شامخة تُعانق السماء، فقد كان الحدث الأبرز في البلاد الأسبوع الماضي افتتاح رائد النهضة العمانية المتجددة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- يحفظه الله ويرعاه - متحف "عُمان عبر الزمان" في ولاية منح بمحافظة الداخلية، هذا المتحف الأعجوبة الذي يحكي قصة هذا البلد العظيم بحضارته الضاربة في أعماق التاريخ ومنجزاته التنموية الرائدة، وقياداتها العظيمة المتمثلة في السلطان هيثم، الذي تولى أمور هذا البلد، وأكمل المسيرة، وقاد المشروع الوطني التنموي نحو المجد والسؤدد، بحكمة واقتدار، في أصعب الظروف التي يمر بها العالم؛ حيث أزمة اقتصادية عالمية كادت تعصف بدول المنطقة، ثم جائحة كورونا التي أهلكت الحرث والنسل.

هذا المتحف الذي وضع حجر أساسه السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه، يهدف إلى التعريف بالحقب التاريخية المُختلفة التي شهدتها سلطنة عُمان، مثل جيولوجيا الأرض والسكّان الأوائل، وصولاً إلى عصر النهضة وما تحقق فيه من منجزات مختلفة في شتى القطاعات، إضافة إلى استشراف المستقبل بما يتوافق وتطلعات السلطنة. ويركز المتحف الجديد على قصة السرد المتحفي على الصوت والصورة، بأسلوبٍ تفاعلي باستخدام أحدث التقنيات في هذا المجال. وقد كان لمدينة مرباط الاهتمام الأكبر؛ إذ كانت حديث الساعة لجميع المتابعين لهذا الصرح المتحفي المميز، الذي هو بمثابة جوهرة التاج. لقد أماط المتحف اللثام عن اكتشاف أقدم قطعة أثرية في السلطنة تم العثور عليها في مرباط، ويبلع عمرها الافتراضي أكثر من 800 مليون سنة، وهذا الاكتشاف يعكس قدم مرباط وتاريخها العريق، فهي بحق "تاج المدائن" وأكثرها قدمًا وعراقة في التاريخ البشري.

وعلى الرغم من هجرة سكان مرباط إلى صلالة في بداية النهضة، وذلك للاستفادة من الخدمات التي تقدمها الدولة في ذلك الوقت، فقد استقطبت الولاية من جديد عددًا كبيرًا من عشاق سياحة الشواطئ الرملية والخلجان ذات المياه الزرقاء في السواحل الجميلة الذين يقضون إجازاتهم الأسبوعية هناك طوال فصول السنة حيث الطقس الرائع والهواء العليل.

وتحتضن مدينة مرباط العديد من المساجد التاريخية مثل مسجد الجامع بجوار فرضة المدينة والحصن الذي كان مقر والي المدينة؛ وكذلك الأضرحة المشهورة، كضريح الصحابي الجليل زهير بن قرضم الذي استقبله الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة وأكرمه، ثم حمله رسالة الدعوة للإسلام إلى قومه في المهرة، والشريف العلامة محمد بن علي باعلوي المعروف بصاحب مرباط، والإمام محمد بن علي القلعي الذي قدم من شمال اليمن قاصدا بغداد، وأثناء توقف السفينة في المرفأ صعد إليها السلطان محمد بن أحمد المنجوي سلطان ظفار وأقنع القلعي بالنزول والإقامة في مرباط، وذلك للاستفادة من غزارة علمه.

ومن المعالم الأثرية في هذه المدينة بيت بن سيدوف العمري الذي يُعد تحفة معمارية نادرة، فقد بناه هذا التاجر المعروف وكان أكبر تجار ظفار في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ إذ كانت النوق تنقل البخور والبضائع إلى الدور الثاني في هذا البيت الذي يطلق عليه "نزوى".

لقد اشتهرت مرباط بتاريخها البحري، باعتبارها واحدة من الحواضر في الجزيرة العربية، حيث عرف أهلها بالأسفار إلى مختلف دول العالم مصدرين اللبان والخيول والجلود والسمن البلدي، مما انعكس على السكان؛ حيث الرخاء الاقتصادي، فكان كل من ضاق به العيش في ظفار، يأتي إلى مرباط، فقد اشتهر أهلها بالكرم؛ إذ يتقاسمون الضيوف من على دكك المساجد، ويتنافسون في إكرامهم لوجه الله.

في الختام.. على صُنّاع التنمية في هذا البلد أن يُعطوا هذه الولاية العريقة حقها في المشاريع؛ لكي تكون رافدًا اقتصاديًا للدولة، خاصة للسياحة الوطنية؛ فالمدينة بحاجة إلى ميناء تجاري يُضاف إلى مرفأ الصيادين الحالي، وكذلك تحتاج إلى مركز لخفرٍ السواحل لمواجهة تهريب المخدرات، وقبل ذلك ترميم الأحياء القديمة من المدينة، وعلى وجه الخصوص سوق المدينة القديم القريب من حصن مرباط.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهير

الأكثر قراءة