علي بن مسعود المعشني
في عام من الأعوام، تولى علي عبد السلام التريكي حقيبة وزارة الشؤون الخارجية بليبيا، وعمد في بداية عُهدته إلى هيكلة واسعة بالوزارة شملت إحالة عدد من كوادرها إلى التقاعد، وكان الشاعر الكبير محمد الفيتوري من ضمن المشمولين بالتَّقاعد.
والفيتوري قصة كبيرة لا يختزلها مقال، لكنه بالمجمل شاعر كبير وقريب جدًا من عقل وقلب الزعيم الراحل مُعمر القذافي ومحسوبٌ عليه؛ حيث عيّنه القذافي بدرجة سفير بوزارة الخارجية، ومهمته ثقافية في الأساس لكي يتفرغ لإبداعه الشعري ونتاجه الأدبي بلا تحرج أو حاجة لأحد ماليًا أو إداريًا. وهذا ديدن معمر القذافي مع النُخب الليبية المُبدعة في مجالات الفن والأدب والثقافة بعمومها؛ حيث حرص على منحهم الأمان المالي والوظيفي الدائمين، مع إبقاء خط تواصل مباشر بينه وبينهم لتذليل أي صعاب تعتري مسيرتهم، والأمثلة كثيرة، يحضرني منهم الأديب الروائي إبراهيم الكوني، والروائي أحمد إبراهيم الفقيه، والشاعر محمد الفيتوري، والمطرب محمد حسن، والفيلسوف الدكتور رجب أبو دبوس، والمفكر الكبير الدكتور الصادق النيهوم وغيرهم.
استاء الشاعر محمد الفيتوري كثيرًا من قرار الوزير علي التريكي بإحالته للتقاعد دون سابق إشعار، وحزم حقائبه من القاهرة؛ حيث كان يعمل ويُقيم إلى طرابلس؛ حيث قابل صديقه مُعمر القذافي وشرح له ما حلَّ به، فتفهم معمر موقفه واستاء كذلك من قرار التريكي، فحمل القذافي قصاصة ورق ملاحظات "صفراء" من على طاولته وكتب عليها عبارة: الأخ علي... الشاعر... والمناضل... ثم وضع أربع علامات تعجب، وقال للشاعر محمد الفيتوري اذهب لوزارة الخارجية في السابعة صباحًا وسلم هذه القصاصة للأخ علي التريكي. ذهب الفيتوري وفق توجيه القذافي، فوجد التريكي ينتظره في مواقف سيارات الوزارة باسطًا كفه لاستلام ورقة المُلاحظة، ثم طلب من الفيتوري مرافقته إلى مكتبه؛ حيث أصدر التريكي قرارًا بإعادة الفيتوري للخدمة واستثنائه من قائمة التقاعد.
كانت فئة المثقفين بليبيا (شعراء، كتاب، فنانين، رواة، فلاسفة، مُفكرين.... إلخ) في عهد معمر القذافي مُدللةً إلى حد كبير؛ حيث كانت تحظى برعاية وعناية واهتمام مباشر من معمر القذافي، وهو ما عبّرت عنه ذات يوم الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي حين قالت: كم أغبط الأديب والروائي الليبي إبراهيم الكوني، ليس لأنه أنتج أكثر من 80 رواية، ولا لأنَّ أعماله تُرجمت إلى أكثر من 40 لغة في العالم؛ بل لأنه محل اهتمام شخصي من "رئيسه" معمر القذافي.
هذا السرد والأمثلة، يقودنا إلى التساؤل عن منطقية تقاعد قدرات إبداعية وفكرية وطاقات ذهنية خلاقة يتدفق عطاؤها بالتقادم والتراكم المعرفي وخبرات السنين، وتمتد لياقتها الذهنية إلى يومها الأخير في الحياة، وتمثل ضمائر وحيوات لأوطانها فكيف يمكن تقبل أن تُحال هذه العقول إلى التقاعد ويسري عليها قانون الموظف البيروقراطي العادي والبسيط؟! بدلاً من أن تُكرم ويُؤمن لها كل أسباب الإبداع والعطاء المادي والمعنوي؛ فهذه المواهب والقدرات نادرة في كل المجتمعات ويصعب تكرارها، كما يستحيل استنساخها، فهي في الغالب نُخب وفئات محدودة في الحصر والعدد في كل جيل من الأجيال، والمواهب توهب من الله ولا تُعطى من غيره، والمهارات تُنمي المواهب وقد تُكتسب ولكنها لا تضاهي المواهب والعطايا الربانية على الإطلاق ولا تكون بديلًا عنها.
لهذا نجد عباقرة تخطت عبقرياتهم الحدود وعبرت الأجيال كونهم نوابغ بنوا وأسسوا بُنى علمية وعقلية لأوطانهم وشعوبهم خارج المألوف في كثير من الأحيان، كما كانوا من أركان الوجه الفكري لها، فبقيت سيرهم شموع تهتدي بها الأجيال وتقتدي بها وتحاكيها رغم مرور آلاف السنين على رحيل بعض منهم.
قبل اللقاء:
من أجمل ما قيل في الزعيم معمر القذافي قصيدة "ها أنت" للشاعر محمد الفيتوري:
ها أنت ذا فوق صخر الموت تزدهر // تصحو وتصحو المرايا فيك والصور
ها أنت ذا تنفض الأجيال ثانية // فتستفيق الضحايا حيث تنتصر
ها أنت ذا أيها الآتي وقد سقط // الغيم القديم وجف العشب والشجر
كأنما جئت في كل العصور وقد // كنت النبوءة في أحلام من عبروا
وكنت في الشوق حيث الروح مثقلة // بالشوق والحلم في الأجفان ينتظر
يا حامل الراية الكبرى إلى أفق // راياته النجمتان المجد والظفر
ويحسبونك شيء مثلهم عرضا // يمر بالكون حين ثم يندثر
إنَّ المقادير تستثني الرجال وإنْ // تشابه البشر الأفذاذ والبشر
وبالشكر تدوم النعم.