"اقرأ وربك الأكرم"

 

 

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

 

 

كان الأستاذ عباس عبد الواحد طويلًا أو ربما كان كذلك بالنسبة لنا نحن طلاب الصف الأول الإبتدائي للعام الدراسي 1978/ 1979م، لكنه لم يكن وسيمًا وكذلك لم يكن أنيقًا كما تبين لنا لاحقًا من خلال عقدنا الماكر للمُقارنات مع الأنفاس الأخيرة لموضة "شارلستون" والنعل الرجالي ذي الكعب العالي، وعمومًا لم نكن نأوي إلى ركن رشيد في تقييم نوعية القيافة المحدثة علينا باستثناء ما عهدناه في ملابسنا المحلية الخارجة عن التقييم ولا يوجد في المدرسة معلمٌ عماني واحد، وكان أكثر ما يُميزه هو العرج الظاهر في رجله اليسرى جراء إصابته في حرب أكتوبر في مصر عام 1973م.

وبما أنني في مرحلة انتقالية مع اليوم الأول وفكرة الحقائب ذات الدواليب لم تخطر على عقل بشر في ذلك الزمان فقد حملت الحقيبة المدرسية على ظهري وقت فسحة الاستراحة بما احتوته من دفاتر وكتبٍ جديدة، حتى إذا اكتشفت بأني الوحيد تقريبًا من يفعل ذلك خوفًا على محتوياتها الثمينة من العبث. أعدتها سريعًا إلى الصف متحررًا من عبء وزنها على ظهري وعقلي ومتنعمًا بشيء من الاستقلالية استعدادًا لخوض المزاحمة على نافذة المقصف؛ حيث قانون الصراع من أجل البقاء يسري مفعوله جنبًا إلى جنب مع البقاء للأصلح، وكأن الانتظام أو الانتظار قليلًا حتى انحسار الغارات الطلابية سيُقلل من الغنائم ونيل المكاسب مع هيمنة ثقافة القليل في كل شيء ومحدودية الخيارات المتاحة عند الأستاذ سيد ذي الشعر الأحمر.

بعد خبوت أوار ملحمة المقصف وإنطفاء غائلة العطش والجوع الوهمية مع دقات الأستاذ مصطفى السوداني للجرس اليدوي، ويعود المناضلون للحصة الرابعة وكل فردٍ منهم يحلم بلمس ذلك الجرس العجيب وقد تجلت الآثار الفاقعة للعصير على ملابسهم وبقايا الجبن الجاف حول الأفواه ترسم خططًا مستقبلية بكل شفافية؛ ويعود الأستاذ عباس هذه المرة غير عابسٍ أو متجهم كما كان في الصباح الباكر بعد ارتشافة قدرًا لابأس به من الشاي الأحمر "الكشري" في غرفة المعلمين البعيدة ذات الوهج والمحظورة على كل الطلاب بلا استثناء، ليقوم بواجبه المقدس في تعليمنا القراءة والكتابة دون كلل أو ملل وبكل معاني الشرف والاقتدار ليتبدد هنا غباش الانطباع الخاطئ الذي تكتل أثناء الحصص الثلاث والذي كثفته خاصية الدفاع الذاتي للمخ المعادي لما يجهله.

في يومٍ من الأيام وفي إذاعة الصباح أعلن "الناظر" وهو مسمى مدير المدرسة آنذاك، أن تحضيراتٍ جارية لقدوم مكتبة متنقلة إلى المدرسة خلال الأسبوع القادم وعلى كل راغبٍ بشراء الكتب الاستعداد، كان حدثًا جديدًا واستثنائيًا؛ حيث لا نعرف المعنى الحقيقي للمكتبة ولا مفهوم شراء كتاب، وكانت المكتبةُ عبارة عن حافلة صغيرة مهيأة لهذا الغرض، وقد شدني كتاب صغير بعنوان "تاريخ عُمان" بغلافه الأبيض الناصع وعنوانه المرسوم بالخط الفارسي وهو كل ما استطعت الإعداد له، فحملته في حقيبتي المدرسية لتنوء بحملٍ على حملها وبشكل يومي على أني لم أتمكن من تهجئة مقدمته إلا بعد عدة شهور وقراءته بدون فهمٍ في ثلاث سنوات قبل التمكن من سبر غوره، ولكني كنت افتخر بامتلاك كتاب لاعلاقة له بالمناهج الدراسية ولن يسألني الأستاذ عباس أو الأستاذ يسري القاسي عن محتواه ومجرد امتلاكه وقراءته وقت ما شئت في اعتباري نوع من الحرية وأسلوب من أساليب الترف.

إن صدى جملة "اقرأ بسرعة يا ابني" لا يراوح جنبات عقلي الواعي غير المتصالح مع عقلي الباطن، وفي صراعٍ دائم كصراع البقاء أمام المقصف بين قبول الزحام ونبذ النظام، ليحفزه على التخلي عن كسله الطبيعي وينشط خلاياه للعمل إذ إن القراءة السريعة هي الأقدر على كسب النسبة الأكبر من فهم المحتوى وعلى عكس ما يعتقد معظم الناس أن القراءة البطيئة هي الأجدر، ويعود ذلك إلى عمل خاصية الدفاع الذهني تلقائيًا أثناء القراءة البطيئة وتدفع بالقارئ إلى وهم النعاس ثم التثاؤب إلى درجة النوم أو إلى الشرود الذهني حول أمورٍ خارجة عن محتوى الكتاب؛ مما يحفز الشعور بالملل والإحجام عن المتابعة، وبالتالي ترك القراءة كليًا، ولا تتأتى القراءة السريعة بالعين دون تحريك اللسان إلا مع الممارسة والتدريب حتى تصل بالقارئ إلى تجاوز 300 كلمة في الدقيقة، مع العلم أن للمخ قابلية تلقي واستيعاب ماهو أكبر من ذلك بكثير وهذا مايفسر لنا قراءة بعض الناس كتابًا يزيد عن 200 صفحة في عدة ساعات.

الإبداع ابن التراكم المعرفي، وكل قارئ تمكن من إحراز 10 آلاف وحدةٍ معرفية في تخصصٍ ما يُصبح قادرًا على تبني موضوع بحثي والإحاطة بكل جوانبه، وبما أن حرية التعبير المبنية على حرية التفكير المبنية على حرية الاستعلام المستقاة من مصادر أصلية ومعارف حقيقية ومعلوماتٍ لم ينل منها التحريف والتزوير، فإن النتيجة بلا شك ستكون مبهرة في التأليف والتصنيف والعكس صحيح، ولذلك نجد هذا الإبداع في تراثنا الثقافي ومعظم مصنفاتنا القديمة أكثر مما نجده في مؤلفات اليوم والتي يبنى الكثير منها على معلوماتٍ مموهة أو مزورة مستمدة من شبكة المعلومات الدولية الإنترنت ومحركات البحث العالمية يطالها مقص الرقيب بين تشذيب وتهذيب لأغراضٍ قد تخدم رؤى وأهداف أطراف ومجموعات خفية كالتعسف في استخدام مُعاداة السامية والغلو في التذرع بقوانينها، فمثلًا لن نجد ذكرًا للكُتَّاب الألمان وكتبهم في محركات البحث الإلكتروني مثل هربرت شفيجل وكتابه "ارفع رأسك أيها الألماني" وأمثاله ممن تحدث عن تاريخ اليهود قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها باستثناء ما يصب في مصلحتهم، بينما نجد كل ما يتعلق ببقية القوميات والشرائع من صالح وطالح بكل يسر، مع الإكبار والتقدير لكل كتَّابِنا المبدعين وماقدموه ويقدمونه من كتبٍ وكتاباتٍ رائعة.

كما قد نلاحظ تأثر بعض الشعوب والمجتمعات بفكر كتَّابِها أكثر من تأثرها بأي فكرٍ آخر قبل ثورة التقنية الإلكترونية، كتأثير الشيوعية الكاسح بسبب أفكار كارل ماركس وتأثر الكُتَّاب الغربيين بفكر الروائي ليو تولستوي في المقاومة المسالمة لنبذ العنف وما أغرب تصويره للتحول السياسي الروسي في روايته الاجتماعية "آنا كارينا"، وتأثير فيودور دوستويفسكي في أدب الفقراء وشخصياته المغمورة من واقع الحياة، وقد أستغرب جدًا من نظرية الكوانتوم في النقل الآني للعالم ماكس بلانك ولكن يستبد بي العجب من دوستويفسكي في رواية "الأخوة كارمازوف"، وإذا كانت نظريات آينشتاين في النسبية العامة والخاصة تقف على أكتاف العلماء فإن رواية "أوليسيس" للكاتب جيمس جويس تقف على أكتاف الحضارات وستبقى كذلك لألف عامٍ قادم.

لم يكن الأستاذ عباس معلمًا وحسب؛ بل كان أبًا مربيًا وناصحًا لينًا وأديبًا مخلصًا مع شيء من القسوة عندما تحين ضرورتها فيستجيب لها الجميع وتبسط نفوذها بين الجهات الأربع لجدران الصف حليبية اللون، بينما لا يفعل اللين ذلك ونفوذه في الاستجابة أقل بسطة مع متعمدي الشغب، ويكتب الأستاذ بالطبشور الأبيض المبلول بالماء عنوانًا يحافظ على بقائه فترة طويلة حتى ضرب بأطنابه سمعًا في عقولنا وما تكرر يتقرر إذ لم نكن نقرأ بعد ولازلنا في مرحلة حاء حي حوء، وما إن بدأنا بربط الحروف لتشكيل كلمةٍ ثلاثية الأصل بين فائها وعينها ولامها الأصلية حتى بدأ الأستاذ بتكرار عبارة "اقرأ بسرعة يا ابني" وما انفك يُعيدها مرارًا حتى باتت مصدر القلق الأكبر والخوف الأول عندما يحين على أحدنا الدور؛ لقد أصاب العنوان خفوت تدريجي وبدأ يبهت مع مرور الوقت الذي يقترب من نهاية العام الدراسي ولكنه ظل صامدًا على رأس السبورة السوداء بخط يد الأستاذ عباس عبدالواحد عباس "اقرأ وربك الأكرم".