المركزية "الجامدة" في اختبارات ومقابلات الوظائف

 

د. عبدالله باحجاج

الكُل يعلم بُعد المسافة بين العاصمة مسقط وبعض مُحافظات البلاد، وأكبرها بعدًا، وأكثرها كُلفة مُحافظة ظفار، ورغم ذلك ليس هناك اعتداد بهذه الخصوصيات الجغرافية، وثقلها المالي الذي قد يُسقط حقوقًا أساسية للمواطنين، فهناك شباب لم تسمح لهم ظروف أسرهم المالية بالذهاب إلى مسقط لإجراء مقابلات واختبارات التوظيف، ما فوّت عليهم حق المساواة في المنافسة على الوظائف!

هؤلاء لم يتمكنوا من دفع قيمة تذاكر الطيران على خط "مسقط- صلالة"، والتي قد تصل على متن "الطيران العماني" إلى 90- 100 ريال، وقد لا يجدها بالسعر المعقول في الخيارات الأخرى؛ لأنَّ الحجز مرتبط بالعرض والطلب، وحتى لو كانت أقل، فلن يتمكنوا، ولو تمكنوا ستقفُ مصاريف الإقامة والسكن والمواصلات عائقًا أمامهم. ونما إلى علمي أن شابًا كان من المفترض أن يكون في مسقط لإجراء الاختبارات والمقابلات، لكنه لم يذهب للأسباب سالفة الذكر.

شخصيًا أعرف شابًا في سن الثلاثين، لمّا علم قريبٌ له بعجزه المالي عن الذهاب لمسقط للغرض نفسه، ساعده في دفع تكلفة التذكرة، وكانت 70 ريالًا، ورتّب له مع صديقه الذي يعمل في مسقط مسائل استقباله وسكنه، ومن ثم تمكن من ممارسة حقه في المنافسة مع غيره على الوظائف، وكم كانت المفاجأة؟! فقد فاز هذا الشاب بفرصة العمل الوحيدة، وهي مُدخل بيانات، لكن أتدرون أين مقر عمله؟ إنه في مسقط رأسه "ظفار"!

هنا المُفارقة.. فلماذا لا يُختبر في مسقط رأسه ما دام سيُعين في نفس المحافظة؟ ولنتصور أنه لو لم يقف معه قريبه، لفَقَدَ فرصته المُستحقة. ويُمكن القياس على هذه القصة بالكثير من السيناريوهات في فقدان الفرص، وغياب الحق في المنافسة.

ما سبق يعكس مفاصل من معاناة الباحثين عن عمل، وخاصة المالية والسيكولوجية، ويعمِّق فيهم حالة القهر بعجزهم أسريًا واجتماعيًا، والتي قد يكون وراؤها مجموعة أسباب مثل تقاعد أولياء أمورهم، وعدم مواءمة الدخول مع احتياجاتهم الأساسية، وقد يكون أقرباؤهم من ضمن الأعداد التي تشتغل على الحد الأدنى للمرتبات 325 ريالًا. ووفق الإحصائيات الرسمية المنشورة، هناك أكثر من 80 ألف مواطن في القطاع الخاص يتقاضون راتبًا أقل من 400 ريال.. فكم عدد من راتبه أقل من 500 ريال؟ وكم مواطن يتقاضى أقل من 600 ريال؟ ومن ثم ما قوة هذه المرتبات المعيشية في ظل حالة الغلاء وتعقيدات استحقاقات الحقوق الأساسية كالحق في قطعة أرض سكنية؟ مما يُضيف على نفسياتهم أبعادًا تراكمية، تُضيِّق من خياراتهم، وقد تدفع بالبعض إلى الفراغ المُسبب لقضايا تعج بها محاكم البلاد، وقد تكلمنا عنها كثيرًا!!

ونعتبر قصة وظيفة "مُدخل البيانات" سالفة الذكر، نموذجية لقضية المركزية الجامدة وتفويت فرص العمل على الكثير من الباحثين بسبب عدم الاعتداد بثِقل الجغرافيا في اختبارات ومقابلات الوظائف، ونجدها أمامنا مُتخيّلة لحالات كثيرة صامتة؛ أي لا تظهر فوق السطح، لكنها تتفاعل تحت السطح، ونجدها من بين الأسباب الرئيسية التي توسّع الفجوة المناطقية على مسارات ترسيخ الوطنية من منظور حقوقها الاجتماعية. وقد تعرّفتُ على قصة مُدخل البيانات بالصدفة من الشخص نفسه، وهو نفسه في حالة ذهول من نجاحه الأوحد بهذه الوظيفة، رغم أنَّ قاعة الاختبارات كانت تعج بالباحثين، ورغم أنه جاء متأخرًا للاختبارات.. إلخ.

قضية عدم الاعتداد بالثقل الجغرافي لا تلقي بظلالها على الباحثين عن عمل فقط؛ بل على التواصل الاجتماعي المُتعدد الأغراض (الطبي والسياحي والتعليمي"، كما إنها ليست في مسار الأحادية لها من ظفار إلى مسقط فقط، وإنما مسندم، وهناك تفاصيل أخرى داخل هذه الجغرافيات الإقليمية مثل جزر الحلانيات وجزيرة مصيرة التي تعاني من مشكلة التواصل مع ترابها الوطني؛ فمحافظات البلاد أصبحت تتميز بالتعددية للساكنات الاجتماعية المناطقية، عملًا وتعليمًا أو صلة أرحام وقربى، وبالتالي هي قضية عامة، وينبغي النظر إليها كذلك، ولو كان هناك قطار سريع يربط هذه المحافظات بمسقط العاصمة، لكان ذلك خيارًا متاحًا ومُمكنًا، وسيظل خيار السفر بالطيران من المسائل الترفيهية للنخب بحكم التحولات المالية التي طرأت على الأسر منذ آخر 3 سنوات.

غير أن خيار قطار المحافظات، لا نجده ضمن الأجندات الوطنية حتى الآن، رغم وجود الحاجة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية له، وتحركه في بلادنا الحاجة الاقتصادية الإقليمية المشتركة، مثلًا مشروع القطار بين صحار وأبوظبي، وآخر بين الدقم والرياض، بالطبع لا نقلل من أهميتهما أبدًا؛ بل إنهما في السياقات الصحيحة، لكن الأصح كذلك أن ترتبط المناطق الاقتصادية والحرة في البلاد بشبكة قطار سريعة، فذلك له فوائد متعددة لبلادنا، أوضحناها سابقًا؛ منها: الاعتداد بثقل البعد الجغرافي وتأثيره على المجتمع.

نتمنى أن تُؤخذ في عين كل الاعتبارات قضية مركزية الاختبارات والمقابلات وانعكاساتها على فقدان حق العمل للكثير من الباحثين عن عمل، وذلك بصورة عاجلة، لتفادي ضياع الكثير من الحقوق، وحفاظًا على السيكولوجية الاجتماعية. فلماذا لا تُجرى الاختبارات والمقابلات للباحثين في محافظاتهم "اللامركزية"، في الوقت المتزامن مع الاختبارات والمقابلات المركزية وفي نفس مكاتب الوزرات أو المؤسسات؟! فكل واحدة منها لها فروع في كل محافظة، ولماذا لا تجرى إلكترونيًا، وتُعلن نتائجها فورًا؟

إنَّ الإصرار على المركزية الجامدة في الاختبارات والمقابلات، بعيدا كل البعد عن خيارات الدولة المعاصرة التي تتبنى اللامركزية، وهي في وادٍ عن خيار الحكومة الإلكترونية والتحوّل الرقمي، كما إنها تقف عاجزة عن تنفيذ توجيهات عاهل البلاد المفدى- حفظه الله ورعاه- في التقرب والتقريب من المواطنين، وهي لا تُقدِّر تقلبّات أحوال الأسر الناجمة عن التحوُّلات المالية..

إنَّنا نُكررُ مطالبتنا بالاعتداد بالبُعديْن الجغرافي ومستجدات ساكنته المالية؛ باعتباره أحد حقوق المواطنة، وليس تفضلًا.