أخطاء في ثقافة الاجتماعات!

 

د. صالح الفهدي

يَعشقُ بعض المسؤولين الاجتماعات إلى درجةِ الهَوَس بها..! يعقدون الاجتماع تِلْوَ الاجتماع دون توقفٍ لمراجعةِ مدى الأهمية والجدوى من عقد الاجتماع، ودون تقييم عائد الاجتماعات على العمل واقعيًا، ولا أهمية أوقات المشاركين في الاجتماع! حتى إنَّ بعض المسؤولين لا يعنيه الوقت لموضوع لا يستغرقُ في نقاشه نصف ساعة فيمتدُّ لساعاتٍ طويلة؛ فيشعر المشاركون فيه بالإحباطِ والتَّعب، حتى ينفصلوا ذهنيًا عن الاجتماع، منقطعين فيه عن أعمالهم، وعلاقاتهم، بينما لا يتوقفُ ذلك المسؤول عن الكلام متفرِّعًا لمواضيعَ لا دخلَ لها في موضوعِ الاجتماع، ترنُّ هواتفهم الصامتة وقد تجاوزوا ساعات الدوام الرسمي وهم مقيَّدون في الاجتماع لا يستطيعون الردَّ على أقاربهم الذين انتابهم القلق لتأخرهم، والمسؤول لا يعنيه لا الوقتُ ولا الظروف ولا قلق الأقارب، ولا إحباط وتململ المشاركين في اجتماعه!

وينطبقُ على هؤلاء ما قاله عالم الاقتصاد والمنظِّر الاجتماعي الأمريكي توماس سويل:"يجب ألا يكون الأشخاص الذين يستمتعون بالاجتماعات مسؤولين عن أيِّ شيء" في إشارةٍ منه إلى تفرِّغ من يستمتع بكثرة الاجتماعات من المسؤوليات الأُخرى لأَنه لن يستطيع القيام بها مع كثرة اجتماعاته!

يقول أحدهم: شاركتُ في اجتماعٍ كان يفترضُ أن يكون في حدود الساعة، وكانت لدي رحلة طيران، ولكن طال وقت الاجتماع لساعات طويلة، ولم أستطع أن أستأذنَ من المسؤول خشية الإِحراج، فلذتُ بالصَّمت، وفاتت عليَّ الرحلة!!، ويقول آخر: دُعينا لاجتماع ولم يكن يتكلَّم فيه إلا الرئيس، أما نحن فكأننا أجسادٌ خرساء مُلقاةٌ على الكراسي لا مهمَّةَ لها سوى الإستماع إليه وقد كنَّا في ذات مرتبته الوظيفية، فخرجتُ من الاجتماع إذ رأيتُ أَنَّ الإستمرار فيه إهانة لا أرتضيها لنفسي. ويقول ثالث: نعاني من أحد المديرين يدعو لاجتماع لأَبسطِ موضوع، وكنتُ أيضًا مديرًا لدائرةٍ أُخرى، فقلتُ له: يا فلان هذه أمور يمكننا أن نحلَّها بالتواصل الإِلكتروني الداخلي، فأصرَّ على الاجتماع، فحضرنا الاجتماع ثم سألتُ بعد ذلك موظفة دائرتي التي حضرت معي الاجتماع فيما إن كان من الممكن أن نحلَّ الموضوع عبر نظام المراسلات الداخلية للمؤسسة أم لا، فأجابت: نعم كان يمكننا فعل ذلك، ولم يكن الاجتماع مبررًا".

أظهرت دراسة نشرتها مؤسسة "أوبينيون واي" في أبريل 2017 أن ربع الموظفين لا يدركون الفائدة من الاجتماعات خاصة عندما تكون إلزامية، وأن حوالي 40% من المشاركين يركزون على هواتفهم الذكية أو أجهزة الحاسوب لتمضية الوقت. وعلى هذا النحو، يكون واحد فقط من كل أربعة اجتماعات مثمرًا وينتج عنه اتخاذ قرار؛ أي أن المؤسسات تهدر وقتًا يعادل ثلاثة أسابيع في اجتماعات لا فائدة تُرجى منها.

من هُنا.. يجب أن يُدرك المسؤولون أن ثقافة الاجتماعات الكثيرةِ لا تستنزفُ الوقت وحسب بل والمال أيضًا، ناهيكم عن الطاقة الذهنية والجسدية ولهذا يفترض أن يقلِّلوا منها، يقول عالم الإدارة "بيتر دراكر":"الاجتماعات هي أحد أعراض سوء التنظيم؛ كلَّما قَلَّ عدد الاجتماعات كان ذلك أفضل".

دُعيتُ شخصيًا لاجتماعٍ في إحدى الوزارات، وقبلَ أن يبدأ رئيس الجلسة وجَّهتُ لهُ سؤالًا: أَيُعقلُ أن نجلسَ في كراسينا لثلاثةِ ساعاتٍ ونصف كما يتَّضحُ من جدول الاجتماع؟! استغربَ رئيس الجلسةِ فلم يكن لديه علمٌ مسبقٌ بطولِ هذا الوقت، وقالَ: أَتَّفقُ معكَ، فهذا الوقتُ طويلٌ جدًا!

كفاءة رئيس الاجتماع لإدارته يعدُّ عاملًا أساسيًّا لنجاحه؛ يقول المبرمج ورجل الأعمال جاستن روزنشتاين: "عندما يعرف القادة كيفية قيادة اجتماعات رائعة، يكون هناك وقت أقل ضائعًا وإحباط أقل" أمَّا في حال عدم الإدارة الصحيحة للاجتماع، كأن يكون الاجتماع غير محدود بزمن أو أنَّه يتشعَّبُ لمواضيع لا تمتُّ بصلة لأجندته، فذلك يعدُّ من الاجتماعات الثقيلة الوطءِ، والمحبطة وتخلق ما يسمَّى بـ"الإِرهاق المُزمن" الذي يسبب اضطرابات الذاكرة ومشكلات نفسية وعصبية واجتماعية مختلفة.

مؤخرًا كشف الشيخ حمد بن جاسم بن خليفة رئيس وزراء قطر السابق في حوار مع برنامج "الصندوق الأسود": أنَّه قابل السلطان قابوس بن سعيد- رحمه الله- لإقناعه بحضور الاجتماعات التشاورية لمجلس التعاون الخليجي بعد أن كان رافضًا حضورها، فلمَّا عرضَ عليه الأمر، ردَّ السلطان قابوس بأنَّه لا يحبِّذ كثرة الاجتماعات، خاصَّة تلك التي لا أجندة معدَّة لها سلفًا، وهذا أمرٌ جوهري لأن أهداف الاجتماع لا بُد وأن تكون واضحةً للجميع؛ بل وأن يشارك الجميع هذه الأهداف والإستعداد لها بأفكار ومقترحات حتى لا تصبح الاجتماعات إهدارًا للوقت، ومضيعةً للجهود.

يقول الكاتب الأمريكي آدم غرانت: "تضاعف الوقت في الاجتماعات أكثر من ثلاثة أضعاف منذ فبراير 2020، ما يقرب من ثلث الاجتماعات غير ضرورية - مما يؤدي إلى إهدار 25 مليون دولار سنويًا مقابل كل ألف شخص"، ويحدِّد أربعة أسباب لعقد الاجتماعات، فيقول: "هناك 4 أسباب للاجتماع: (1) اتخاذ القرار. (2) التعلم؛ أي الحصول على معلومات مهمَّة، وتلقِّ أوامر. (3) الترابط أي تقوية العلاقات مع الطرف المجتمَع به، أو ربط الآراء المتشعبة (4) التنفيذ؛ أي البدءُ بالعمل" موضِّحًا "إذا لم تتوفر أحد هذه الأسباب، فقم بإلغاء الاجتماعات"!

إِن فكرة الاجتماعات تقوم على أُسس معيَّنة على رأسها تحديد الحاجة الضرورية للاجتماع من أجلِ حسم مواضيعَ معيَّنة، على أن آليات معيَّنة يجب أن تضمن نجاحها، ومن ذلك: الشخصية المناسبة لإدارة أجندة الاجتماع بكفاءة، عدم التفرع في النقاش، إيجاد وسيلة سريعة لحسم الآراء في بنود الاجتماع، تحديد وقت الاجتماع بأقل وقت ممكن، إرسال الأجندة مسبقًا للأعضاء.

إِنني أدعو إلى إعادةِ النظر في ثقافة الاجتماعات، من أجل تقليلها بالصورة التي تضمن اقتصارها فقط على الفاعلية والكفاءة والفائدة، ولا شك أنَّ مبررات الاجتماعات في السابق ليست نفسها هي اليوم في ظل وجود نظم المراسلات الداخلية في المؤسسات والتي يمكن أن توفر المال والجهد والوقت وهي موارد ثمينة لأَية مؤسسة. دعوا عنكم كثرة الاجتماعات التي أثبتت الدراسات قلَّة فاعليتها، وتحقيق جزءٍ منها فقط لنتائج ملموسة، وتوجَّهوا إلى الاستفادةِ من فاعلية النظم الحديثة التي يسَّرت التواصل، ووثَّقت المخاطبات، وسرَّعت اتخاذ القرارات.