فويلٌ للقاسية قلوبهم...

 

أنيسة الهوتية

يظن الإنسان أن قوته تكمن في اتخاذه لموقف شديد صارم وردة فعل عنيفة على كل أمر لم يُعجبه في حق نفسه طرأ من آخر! فتراه يدافع ببسالة كفارس مغوار يخوض غمار حرب شرسة مع أعدائه الأشرار- كما يخيل له- وفي الواقع هو يهول الأمر على نفسه وفي نفسه ولو كان إنسانًا متوكلًا على الله بحق لرزق الله خوالجه راحةً جعلتها ترتفع وترتقي إلى السماء كغيمة بيضاء نقية طاهرة آمنةً مُطمئنة وتلك الغيمة كلما هطلت مطرًا على تلك الأراضي المجحفة الجافة حتى تنبت بمحبة وتخضر وتثمر وتورق، قلع هؤلاء الذين يظنون أنهم فرسان في حرب ذلك الزرع، وقالوا: ماذا تريد منا هذه الغيمة المنافقة التي تركتنا في أرض المعركة ولم تقدم لنا الدعم! أتريدنا أن نرضى عليها ونسامحها بكم قطرة ماء تسكبه علينا وعلى أراضينا!؟ لا، لن نفعل، ولن نتقبل وجودها بيننا هيا ارموها بنبالكم وسهامكم حتى تتشتت هي وأبناؤها الغيوم الصغار!

ولقلة عقلهم يظنون أن نبالهم وسهامهم -التي لا تصل إلى الغيمة وإن وصلت فإنها تعبر من خلالها ولا تضرها- ستقتل غيمةً كريمةً مباركةً متوكلةً على الله في غدوها وآصالها.. وإن تحول صغارها إلى غيوم سوداء أرعدت وأبرقت إلا أنهم يبقون غيومًا في السماء لاينزلون إلى أرض امتلأت بالوحوش الخياليين والمعارك الوهمية التي يعيشها أولئك الفرسان كما عاش دون-كيشوت في خيالاته

ثم يعيبون الإنسان الطيب المتسامح، ويتهمونه بالنفاق والضعف وقلة الحيلة! وكيف يكون ضعيفًا وقليل حيلة من يسبح الله بكرةً وأصيلا! ولا يضع رأسه على وسادته إلا وهو قائل ربي إني سامحت كل من أضرني وتحدَّث عني وأبتغى بيني وبين الشر والضرر سبيلا، ربي إنني وكلتك سبحانك عليهم وكيلا، فنقي قلبي وصدري من الهم والغم والحزن والقلق كما تنقي الثوب الأبيض من الدنس فإنك خلقتني لأعبدك وأنا على وعدك وعهدك ولا أبتغي غير محبتك ورضاك ولك التبجيلا... أمثل هذا يكون إنسانًا ضعيفًا مستضعفًا!؟

والحق أقول، لا تعبثوا أبدًا مع إنسان كان توكله الوحيد على الله، فيسخِّر الله له الأرض وما عليها، وعندما يُقهر ويرفع يديه للدعاء على من ظلمه فيستحي ويستغفر رحمةً عليهم فإنَّ الله يستجيب له حتى وإن لم يقدم شكواه إلى الله.

الطيبون المتسامحون المبتسمون هم أحب خلق الله، وقد حرم الله النار أن تلحق هم ولو من بعيد، فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "حُرِّم على النَّار كل هين لين سهل قريب من النَّاس"، أهذا من تضحكون عليه وتتهمونه بالضعف! اللين، الطيب، السهل، القريب من الناس! هل نسيتم أن "أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس"؟، وبالمقابل فـ"ويل للقاسية قلوبهم.."، وليس هناك قلب أقسى من قلب إنسان يقاطع أرحامه، ويحازب ويفرق ويؤذي البين.

والقاسية قلوبهم هم من يجدون في عتاب المُحب أذى، وفي الشوق غلظةً، وفي الرحمة ضعفًا، وفي التعلق كراهةً، وفي التسامح تنازلًا، وفي الوصل ذلًا، وفي العطاء خسارةً، وفي المحبة نفاقًا.. والأقسى منه هو من لا يلتمس عذرًا في نفسه لأحد لا لأخ ولا لحبيب ولا لصاحب وقريب أو جار مُجيب!

والأكثر غلظةً في قساوته هو من يجند قسوته بزرعها في قلوب أخرى كثيرة! ومثل هؤلاء ظالمون لأنفسهم قبل غيرهم، فمن لهم يوم لن يقبل منهم عذر أو تبرير! يوم تخشع الأصوات للرحمان فلا يسمع إلا همسًا، يوم لا تنفع شفاعة إلا من أذن له الرحمان ورضي له قولًا.