الاستنزاف غير المحسوس

 

محفوظ بن راشد الشبلي

Mahfood97739677@gmail.com

من الأخطاء التي يمر بها الإنسان في حياته هو أن يبقى يطارد شيئا مفقودا عنه ويحتاجه مهما كلّفه الثمن، فتجده يلهث وراءه مضيعًا كل جماليات الحياة من حوله وحواليه وراميًا خلفه كل التزاماته تجاه عباداته وأهله وناسه في سبيل الحصول على ما يبحث عنه وهو عنه شارد ومفقود من أساسه.

فتجده يعتذر عن كل الدعوات الاجتماعية التي تُوجّه له من قِبل أقربائه وأصدقائه بحجة أنَّه مشغول ووقته لا يسمح لتلبية دعواتهم؛ بل ولا تجده في التجمعات الأخوية ولا الأُسرية ولا حتى في أوقات الصلوات والعبادات بحجة أنه مشغول، وعندما تلتقيه صُدفة تجده يتوارى عنك ويختصر حديثه معك وهو في شرود ذهني كي لا تشغله؛ بل وتجده قد أهمل نفسه وملابسه رثّة عليه ويبدو على جسده علامات الإجهاد في وقت يجب أن يكون فيه في حالٍ أفضل مما هو عليه كونه قد أفنى عمره في شبابه للعمل والكد والكفاح ويجب عليه الآن وقد بلغ سن الخمسين وما فوق أن يستريح ويُسخّر وقته ويُفرّغ نفسه لعباداته ولقربه من أُسرته وعياله وأصحابه.

إنَّ التصور الذي يعيشه البعض في كيفية جعل الركض وراء المفقود عنده لإرضاء شهوات نفسه ودنياه وزيادة غلّة رصيده البنكي غاية يمتهنها في حياته على حساب راحة نفسه وبدنه وخاصة في مرحلة تقدمه في السن هو تصور مُستَهلك للحال والبدن والذهن وللصحة والعافية، والمصيبة الأدهى والأَمر في ذلك هي أن لا تجد علامات الثراء بادية على ذلك الإنسان في نفسه وفي بيته وأهله وعياله وعلى ملابسه التي يرتديها أو على سيارته التي يقودها، بل بالعكس تراه مُفلساً من كل الجهات التي يركض وراءها وكأنّه يطارد سرابا مفقودا لا جدوى منه سوى التعب والإجهاد.

استوقفتني محاضرة للشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي يقول فيها: إن من لم يرض بما قسمه اللّه له فسيُسلّط اللّه له الدنيا يركض فيها ركض العمى فيستنزف فيها صحته وعافيته ثم لن يجد منها إلّا ما كتبه اللّه له فيها، وحديثه ذلك رحمه اللّه يشعرنا بمدى مُعاناة السّباق لإرضاء النفس بمطالب الدنيا وحيازة مُغرياتها التي لا تنتهي ولجني ما فيها على حساب الصحة والعافية ومن ثَم لا يجد النتيجة إلّا ما كتبه اللّه له فيها وهو في الحالتين خسران إلّا ما رحم ربي.

إنَّ تسخير الوقت للاستمتاع بجماليات الحياة عند تقدم العمر لا يدركه المشغولون عنها بمطامع دنياهم، فلو سخّر الإنسان وقته لعباداته والاهتمام بصحته كممارسة الرياضة والتفريج عن نفسه بالتنزّه والخروج مع أصحابه وأصدقائه كالرحلات والطلعات والمشاركة المجتمعية كتلبية الدعوات للمناسبات وغيرها من الأنشطة والفعاليات لهي راحة نفسية تشعر الإنسان بقيمته وبوجوده بين ناسه وأهله ومجتمعه بل وترفع من هرمون السعادة وتزيد من الطاقة المكتسبة وتمد الجسم بالحيوية والنشاط.

الخلاصة.. إن كان الإنسان يعيش في ضنك العيش وقد مضى عليه الدهر وليس له ما يكفيه ويعينه في حياته عند كِبر سنّه فذلك الأمر له مُبرراته التي تجعله في محك السعي لكسب معيشته، أما وإن توفّرت معه معيشته وسكينة في نفسه ولديه ما يكفيه للعيش بكرامة وعياله يكفونه بلاوى الزمان وتعبه ومكدّته وهو مُستمر في فني عمره لزيادة الغلّة بالركض وراء مطامع دنياه وشهوات نفسه فلا شك أن ذلك يبقى استنزافاً لطاقة الإنسان وحجب نفسه عن الاستمتاع بجماليات الحياة الاجتماعية الأخرى بين أهله وذويه وأصدقائه والتفرّغ لتغذية روحه ونفسه بعباداته التي قصّر فيها في بدايات عمره بشعور غير محسوس وخاصة عند الكبر، فالجسد له طاقة مُحددة يجب مراعاتها والنفس لها سكناتها الروحية والمعنوية التي يجب التفرّغ لها والحياة لها أولويات وجماليات غير تلك التي شغل بها الإنسان نفسه وعقله وفكره كي لا يجد الإنسان نفسه وقد خسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخُسران المُبين.

تعليق عبر الفيس بوك