د. إسماعيل بن صالح الأغبري
التسهيلات ( الوساطات):
دأبت السياسة العمانية على عدم صب الزيت على النَّار، وتجنب تسعير الفتن أو التحريش بين الأطراف المختلفة الإقليمية أو الدولية لذا فإنَّ وسائل إعلامها لا تعتمد لغة التهويل للأحداث الجارية السلبية بين هذه الدول، التسهيلات أو الوساطات باتت جزءا من المنهج السياسي العماني على أنَّ هذا المنهج ليس وليد الحال، وإنما هو منهج متجذر نابع من ثقافة الساسة والشعب العماني، ويمكننا أن نشير إلى بعض من ذلك:
التوسط بين الملك السعودي والشريف علي بن الحسين: بسبب الصراع على إثبات شرعية الحكم ومن هو الأحق بإدارة الحرمين الشريفين وحكم الحجاز استعر النزاع المسلح بين الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود والشريف علي بن الحسين في الحجاز، فما كان من الساسة في عمان إلا أن بسطوا يد إطفاء الفتنة بين الجانبين حيث انتدب السلطان تيمور بن فيصل البوسعيدي (ت 1383هـ) شخصية ذات ثقل معرفي وسياسي للصلح بين المتقاتلين وهي شخصية المؤرخ والسياسي البارز سليمان باشا الباروني، وزوده برسائل باسمه موجهة إلى كل من الملك وشريف الحجاز، وحثه على بذل الجهد واستفراغ الوسع من أجل إنجاح المساعي، ومما جاء في رسالة السلطان إلى جلالة الملك "حامل هذا (أي الرسالة) هو على ما نحن عليه من الكدر... فالمرجو اعتماد كلامه في هذا الصدد فإنه الثقة الأمين، وله تفانٍ وتضحية في كل ما يتعلق بإصلاح حال الأمة الإسلامية" وفي رسالة السلطان إلى الشريف "حامل كتابنا هذا هو الوجيه... الشيخ سليمان باشا الباروني أحد علماء مذهبنا من رجال الإسلام المعروفين لديكم شخصا وعملا... فلا حاجة إلى التوصية إلى اعتماد ما يُبديه".
وفي المقابل، فإن الإمام محمد بن عبد الله الخليلي (ت 1953هـ) لم يتوان عن التقريب بين المختلفين، فأرسل رسالة إلى الباروني يبارك فيها مساعي السلطان، وأيضا حث الباروني على بذل قصارى الجهود من أجل وقف الاقتتال الدائر بين المختلِفِين "وقد استحسنا جدا تكليف السلطان إياك بالتوجه إلى الحجاز مندوبا من طرفه، وحامل كتب نصيحة إلى المتحاربين، فنعم الرأي رأيتماه".
ومن الملاحظ في هذه الوساطة أنها ليست وساطة من أجل ذر الرماد في العيون، ولا مجرد حراك دبلوماسي تقليدي، لا يعبأ أصحابه بنتائجه، بدليل أن الشخصية التي انتُخبت واختيرت للتوسط ذات منصب عال رفيع لدى الإمام والسلطان، فالباروني كان بمثابة المستشار والعَضُد الأيمن لكل منهما كما أن العلامة سليمان باشا الباروني عَرَكَ السياسة وخبر دهاليزها، وخاض غمارها، وركب سفينتها، وهو مؤمن بضرورة جمع الصفوف، وهو أيضًا عالم مطلع على مواريث أسلافه، الذين يسعون في سائر العصور لوأد الفتن بالإضافة إلى أنه مؤرخ، فهو خبير بما تجره الانقسامات الداخلية من ويلات تسلط القوى المستعمرة، ومن الملاحظ أيضا أنه تم التشديد عليه شفويا وكتابيا من الإمام والسلطان على أن يبذل الجهد ويستفرغ الوسع في تلك الوساطة.
لم تزل مساعي الصلح من أهل السلطة في عمان قائمة في كل محفل ومنتدى ومجمع، فعندما عُقد المؤتمر في القاهرة من أجل الصلح بين الملك والشريف، أرسل الإمام الخليلي ممثلًا عنه ونائبًا وهو الباروني ليبذل ما أمكنه من أجل إنهاء الصراع "فإننا نكلف جنابكم باسم الأمة العمانية أن تحضر هذا المؤتمر الذي سيعقد لهذا الغرض الديني السامي في مصر أو غيرها من البلاد الإسلامية".
واضحٌ أن التكليف ليس فقط شفويًا، وإنما جاء مؤكدًا كتابة، وما ذلك إلا حرصًا من ولاة الأمر في عُمان على ردم الهوة بين زعامات وشعوب الأمة.
العلامة المؤرخ والسياسي سليمان باشا الباروني ليس بحاجة في الأصل إلى تشديد عليه بأن يبذل الجهد في ردم الهوة، لأنه لا يقوم بذلك من باب الواجب الرسمي؛ بل هو ذاته مؤمن بضرورة الاجتماع، ومن الشواهد على ذلك أنه قد آلمه ما ظهر من تسابق الصحف في إظهار الصراع بين الذي دار بين الملك السعودي عبد العزيز بن سعود وإمام اليمن يحيى على أنه صراع مذهبي، ورأى أن الصراع شؤم على المسلمين جميعًا كما ناشد الصحف بأن تغير لهجتها في كيفية إظهار الصراع.
ولم يزل ذلك المنهج السياسي هو المبدأ الذي تتوارثه القيادة السياسية في عمان عبر القرون، إنه لا يقتصر على مساعي وقف الحروب، بل يتعداه إلى محاولة تخليص المحتجزين، الذين لم يخوضوا حربا، مستثمرة في ذلك علاقاتها الطبيعية مع جميع الخصوم السياسيين، فالبعد الإنساني ملازم للسياسة والدبلوماسية العمانية، ومن الأمثلة على ذلك:
أ) تمكن الدبلوماسية العمانية من الإفراج عن الشخصية العلمية الإيرانية المحتجزة في واشنطن عطاء الله رودي عام 2013، فلو لم تكن علاقاتها على أحسن ما يرام بين الطرفين لما أمكنها إنجاح المهمة التي قامت بها.
ب) تمكنت الدبلوماسية العمانية من الإفراج عن شخصيات أمريكية وبريطانية كانت محتجزة في إيران.
ت) تمكنت الدبلوماسية العمانية من الإفراج عن مواطنين أمريكيين وبريطانيين وفرنسيين كانوا محتجزين في اليمن عن طريق أطراف يمنية متصارعة.
ت) تمكنت الدبلوماسية العمانية من الإفراج عن شخصين بريطانيين كانا محتجزين في إيران مع إفراج بريطانيا عما يقرب من خمسمئة مليون دولار كانت محتجزة في بريطانيا وذلك بتاريخ 16/3/2022م، وساهمت هذه الخطوة في تلطيف الأجواء بين بريطانيا وإيران.
يبقى سؤالٌ يردده بعض المواطنين وهو إذا كانت سلطنة عُمان تبذل الجهود من أجل إطلاق سراح محتجزين في دول عدة، فلماذا لا نسمع بهذا الدور فيما يتعلق بعدد من المواطنين الذين يتم احتجازهم بدوافع غالبًا ما تكون سياسية، وليست إجرامية؟ أليس الأقربون أولى بالمعروف؟ أليس من مهام الدولة حماية مواطنيها وبذل الجهود من أجل حرياتهم وفك كُرَبِهم؟
للإجابة عن هذا السؤال علينا أن نعلم أن سلطنة عُمان في الأصل لا تُقْدِمُ على التسهيلات أو الوساطات إلا إن طلبت منها الأطراف ذلك، وكذلك فإنَّ المنهج المتبع لديها هو تجنب تسليط الأضواء على ذلك في بداية المفاوضات، وذلك لضمان عدم دخول أطراف من شأنها عرقلة المساعي وصب الزيت على النار، فالإعلان عن ذلك يأتي من تلك الأطراف ابتداء، ثم قد يصدر بيان عن سلطنة عمان يؤكد ذلك.
أما ما يتعلق بالعمانيين فلا شك أن الدبلوماسية العمانية إن تعرض مواطن عماني للاحتجاز التعسفي في الخارج تقوم ابتداءً بالحراك الدبلوماسي عن طريق سفاراتها، إلا أنها كالعادة تتحرك بعيدًا عن الضجيج الإعلامي، حرصًا منها على نجاح ما تسعى إليه.
لعلنا نلاحظ أنه تم الإفراج عن عدد من العُمانيين الذين تم احتجازهم في بعض الدول ولكن دون صدور بيان من وزارة الخارجية العُمانية، وذلك حتى لا يتخذ الموضوع طابعًا رسميًا، فلا تتشنج العلاقات، ولا تحدث توترات بين شعبين؛ بل يُعلن أحيانًا أهالي المحتجز عند نجاح الدبلوماسية العمانية عن الدور المؤثر الإيجابي الذي قامت به.
تتجنب الدبلوماسية العمانية اصطحاب الإعلام في خطواتها؛ لأن الإعلام أقصى ما يسعى إليه تحقيق السبق الإعلامي، وكذلك فإنها تقوم باتخاذ اللازم من حيث الاتصالات وتتبع الموضوع ومعرفة الخلفيات فإن تم الإفراج عن المحتجز فهو المبتغى، وإن لم يتم وتشنج الطرف الآخر فإن شعرة معاوية لم تنقطع، أما لو أعلنت عن تعثر إطلاق سراح المحتجز، فإنها لابُد أن تبرر أسباب ذلك، ما يعني إلقاء اللوم على الطرف الآخر، والطرف الآخر حينها لن يسلم للتبريرات العمانية، وسيقوم بالرد على الطرف العماني وحينها تكون هذه الردود مادة دسمة لوسائل الإعلام، فتزيد الأمور تعقيدًا، وتنقطع شعرة معاوية، وتتوتر العلاقات.
إذا كان للدبلوماسية العُمانية هذا التأثير الإيجابي بين دول الإقليم ودول العالم، تمكنت من تفكيك عُقد بين الأطراف، والتقريب بين دول إقليمية وعالمية عبر طُرق شتى ومنها ما يسمى بالتسهيلات أو (الوساطات) فهل من مردود عملي نالته عُمان؟ وما هو الحصاد والثمار التي جنتها من هذا المسلك؟ هل نالت سلطنة عمان معاملات تفضيلية من تلك الدول التي استفادت من ذلك؟ وهل تمكنت سلطنة عمان من جلب استثمارات كبيرة نتيجة تلك المساعي؟ وهل حصلت على ودائع لتقوية مركزها المالي أو لدعمها خلال الأزمات المالية؟
للأسف الشديد لم يكن هناك استثمار من الجانب العماني في هذا المجال، وكأن العمل المضني من المفاوضات بين هذه الدولة وتلك، والتي تكللت بالإفراج عن محتجزين أو أسفرت عن توقيع الاتفاق النووي عام 2015، هو عمل لله في لله، وتجلى المردود في فقط في الإشادة الدولية بحسن منهج الدبلوماسية العمانية.
إن الدول وخاصة الغربية لا تفهم منطق العمل لله في لله! وإنما المحرك لها في كل ما تقوم به سياستها الدولار واليورو والدرهم والدينار، وفي عموم سياسات الدول فإنها ترتجي من خلال ما تقوم به مردودا اقتصاديا أو معاملات تفضيلية في المجالات الطبية والعسكرية واللوجستية والاقتصادية.
لا بُد لسلطنة عمان أن تستفيد من دبلوماسيتها اقتصاديًا وتنمويًا وأن يعود عليها ذلك بالنفع والفائدة، فسلطنة عُمان باتت واحدة من أسباب عودة العلاقات وتلطيف الأجواء وإذابة الجليد بين كثيرٍ من الدول.