مسعود أحمد بيت سعيد
"وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً على المرء من وقع الحسام المهند" (طرفة بن العبد).
ما أبلغ هذا البيت؟! وكم يا تُرى حجم المرارة والألم الذي استدعى هذا التشبيه؟
نستعيد هذه الأبيات التي قيلت قبل ألف وأربعمائة عام تقريبًا، وكأن قائلها يعيش بيننا الآن، ولكن ما عساه أن يقول الشعب السوري لو أراد اختزال مُعاناته وخذلان أمته في نص شعري؟! وإذا كانت الأمة العربية جسدًا، فسوريا قلبه النابض، وبالتأكيد لن يقسو، فالقلب مركز العاطفة. واليوم بعد سنوات عجاف من الحرب الإمبريالية على سوريا تزداد الحرب الاقتصادية شراسة بفعل قانون قيصر. وحكاية الشعب السوري سيخلدها التاريخ في سجله المضيء، ولا يكفي تمجيده هذا الصمود والتغني به، فهو ليس بحاجة للموت جوعًا حتى يضيف إلى سجله الناصع صفحات أخرى مشرقة.
يقال إنَّ "المصائب لا تأتي فرادى"؛ حيث ضرب قبل يومين زلزال عنيف أجزاءً من سوريا وتركيا، أوقع عشرات الآلاف من الضحايا الأبرياء الذين نترحم عليهم جميعًا، وقد ضاعف من الأهوال والأوجاع التي يعانون منها في الأصل. وتبقى المأساة السورية مختلفة، فقبل هذه الكارثة وبعدها أراد الأعداء أن يفنوا شعبًا بأكمله ليس في ساحات المواجهة المباشرة مع جنوده ومرتزقته؛ بل أمام أفران الخبز، على أن الحصار مهما طال ليله لن يُثني إرادة الشعب الذي يتعاطى معه كاستحقاق وطني. وإذا كان الحصار الإمبريالي والصهيوني مفهومًا، فإن غير المفهوم أن تُجبر أمة بأكملها على الاستجابة للرغبة الأمريكية في فرض حصار قاسٍ على شعب عربي عظيم، كان وسيبقى له دوره التاريخي في كل القضايا العربية المصيرية.
في ستينيات القرن الماضي، وفي إحدى المواجهات الدامية مع المستعمرين الإمبرياليين، قال الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر إن شبح الجوع يُهددنا أكثر من تهديد العدو، وهذا ينطبق تمامًا على الوضع السوري الراهن. ومن هنا ندعو كل الحكومات العربية، وأخص بالذكر سلطنة عُمان والجزائر ومصر، للدعوة لعقد قمة عربية طارئة وتوفير كافة متطلبات سوريا في مواجهة الحرب العدوانية الظالمة وقانون الإبادة الجماعية، ورغم معرفتنا بأدوار معظم الأطراف في هذه الأزمة، إلا أنّه لا يجوز إعفاؤهم من واجباتهم ولا التفريط في أي منجز عربي أو إطار وحدوي، مهما اعتراه من ثغرات، ومهما كانت المآخذ على أدائه، في مرحلة من المراحل. المهم تطويرها وليس تغييبها، كما يريد الأعداء الذين يسعون إلى ضرب كل عنوان جامع، وشلّ فعّاليته مهما كانت عيوبه؛ لتسهيل مهماتهم في السيطرة على المقدرات الوطنية.
إن تخصيص هذه الدول تحديدًا ينطلق من جملة مزايا موضوعية في هذه الفترة الزمنية حيث إن سلطنة عُمان من الدول القلائل التي لم تقطع علاقتها مع الجمهورية العربية السورية وترتبط بعلاقات جيدة مع بقية الأطراف وبإمكانها المساهمة بما تتمتع به من مرونة في تجسير الفجوات وتجاوز بعض العراقيل والمعوقات. وكذلك الجزائر ذات المواقف القومية الثابتة والتي تترأس الدورة الحالية للجامعة العربية، بينما مصر بثقلها ومكانتها العربية والدولية، وبما تختزن من مقومات مؤهلة أن تلعب دورًا حاسمًا، خصوصًا وأنها مستهدفة بنفس القدر، وأن إضعاف سوريا يعد الخطوة الأولى لإضعافها. وقد عبّر جمال عبد الناصر ذات يوم عن هذا الإيمان بأتم الوضوح حين قال: "إن البادي بسوريا سوف يثني بمصر".
وفي مرحلة المد القومي وصلت القناعات المشتركة إلى الوحدة الاندماجية، ومن المهم التذكير بمخططات الأطراف النقيضة الذين لا يخفون غايتهم ومنهم بن جوريون رئيس وزراء الكيان الصهيوني الذي قال سنة 1957 إنه لا يطمئن لوجود كيانه الغاصب إلا إذا قُسِّمت العراق وسوريا ومصر، وهذا في العمق مغزى الحرب على سوريا، وأن أية دوافع أخرى هي ثانوية، ولولا الصمود الأسطوري للشعب السوري وجيشه الباسل وقيادته الشجاعة، ومعهم كل الحلفاء والشرفاء في الأمتين العربية والإسلامية وعلى امتداد الكون؛ لتحققت أحلامه دفعة واحدة!
إن غياب هذه الحقائق يعني أحد اثنين؛ إما التماهي مع مشاريع الأعداء، وإما الجهل بها، وفي كلا الحالتين النتيجة واحدة. وإذا كان الموضوع بحاجة إلى جهد أوسع فإنَّ هناك دولًا عربية أخرى مواقفها متقدمة تجاه الأزمة السورية، وبدأت تعي بأشكال متفاوتة منطلقات الأزمة وأبعادها، وتملك من الإمكانات الكبيرة القادرة على إنجاح أي مسعى خير.
إذا كان اليأس والإحباط من العمل الرسمي العربي مشروع، فإنَّ الجماهير العربية مطالبة بتنشيط كافة طاقاتها وفعاليتها السياسية والاجتماعية التي تتمثل أولًا في رفع الحصار عن سوريا كخطوة أولى، ومن المفيد لفت الانتباه والإشادة بالجهد الذي تبذله بعض القوى القومية ومنها الحملة الشعبية العربية والدولية لرفع الحصار عن سوريا وضرورة دعمها والاستفادة من تجربتها.