أخطاء في التوظيف!

 

د. صالح الفهدي

طالعتُ إِعلانًا نشرتهُ إِحدى الوزارات تطلبُ فيه "خبيرًا"، وقد طلبت أن يكون الخبير حاملًا لشهادة الدكتوراه، وخبرة لا تقل عن 20 سنة، وسوف تُجرى لهذا الخبير اختبارات تحريرية!!

أقولُ أولًا إنَّ التوظيف الخاطئ يبدأ من الشروط غير الصحيحة للوظيفة!! ثم تُعاني المؤسسة فيما بعد من الموظف غير المناسب! لنأخذ أخطاء هذه الشروط المُعلنة لوظيفة "خبير" على سبيل المثال: الخطأ الأول: لا يجب أن تحصر الجهة المُعلنة المؤهل العلمي في (الدكتوراه)، إلا إذا كانت تريدُ تزويق الوظيفة، وتضخيم مسمَّى شاغرها، لأنَّ هذا المؤهل العالي لا يعني أن (الخبير) قد أحاط علمًا بمجاله، فالدكتوراه هي مؤهَّل يناله الطالب على مشروع بحثي محصور في موضوع محدد ودقيق في ذلك المجال، ومع ذلك لا يعني أن صاحب المؤهل يمتلك المعرفة الأصيلة، والمتجددة في ذلك الموضوع، ناهيكم عن الإحاطة الشاملة بالمجال نفسه. الخطأ الثاني: أن حصر الوظيفة على حامل مؤهل الدكتوراه يحرم من قد يكون أفضل من حامل دكتوراه من التقدم للوظيفة التي قد يكون أجدر بها من حامل الدكتوراه؛ فالقضية لا تحسم بالمؤهل وإنما بكفاءة الشخص المتقدم للوظيفة، وقد حسمت دول كالولايات المتحدة الأمريكية قضية ربط الوظائف بالشهادات، لصالح الكفاءات لا الشهادات.

الخطأ الثالث: خلطت الجهة المُعلنة بين الخبرة والخدمة، فقد أعلنت شرط العشرين سنة للخبرة، وفي الحقيقة هذا ما تقع فيه الكثير من الجهات المُعلنة؛ إذ إنها تقصدُ الخدمة حين تضع شرط السنين، وليس الخبرة في حد ذاتها! فالخبرة لا تقاس بالسنين، فقد تكون خبرة موظف في 5 سنوات أو أقل، أفضل من خبرة موظف في 20 سنة أو أكثر! وقد يكون ذلك الموظف قد قضى 20 سنة مركونًا في زاوية، أو متقاعسًا غير منتجٍ، ثم يحصل على شهادة خبرة لـ20 سنة وفي هذا ظلم لأصحاب الخبرات الحقيقية! أَمَّا الخبرة فتُعرف من خلال ما نفذه من مشاريع، وقدَّم من أعمال، ويُستجلى خلال المقابلات التي يفترض أن يُديرها أفراد لهم خبرة عالية في التفنيد بين أصحاب الخبرات من غيرهم، أو من خلال مشاريع افتراضية يمكن قياس وتقييم خبرة المتقدمين فيها.

الخطأ الرابع: في حال الحصول على هكذا خبير بدرجته العلمية العالية، وخبرته الطويلة، فهل يُعقل أن تُجرى له اختبارات تحريرية وكأنما هو في بداية حياته العملية؟! إن إجراءً كهذا لا يكون منصفًا في حقِّه. ثم من هذا الذي يضع الأسئلة التحريرية لمستوى "خبير" يمتلك هذه المؤهلات، ومن يقوم بتقييمه؟! هذا الإجراء كما قلت غير عادل لمستوى المتقدم للوظيفة.

أحد البنوك يقدِّمُ هو الآخر اختبارات في المسائل الرياضية المعمَّقة لجميع من يتقدم للوظائف فيه، وهذا خطأٌ غير منصف أيضًا، فقد يحدث أن يتقدم من هو ضليع في الجوانب الإدارية والتسويقية والإِعلامية ولكنه لا يمتلك القدرة على حل المسائل الرياضية، مما يعني أن هذه الجوانب ستُحرم من الكفاءات اللائقة بسبب الاختبارات التي وضعها البنك.

إحدى الجهات المسؤولة عن التوظيف تصفِّي أعداد المتقدمين للوظائف عن طريق شاشات الأجهزة بحلِّ الاختبارات، ثم توظِّف العدد المطلوب فور الفرز دون مقابلات، في حين أن المقابلات تكشف الكثير من الجوانب النفسية والشخصية والعقلية للمترشح للوظيفة.

يخبرني أحد القضاة أنه ذهب إلى فرنسا في مهمة عمل، وهناك سأل أحد المسؤولين الكبار عن توظيف القضاة، فقال له: في جميع المقابلات يحضر طبيب نفسي، لا يُشارك في الأسئلة لكن يُحلِّل شخصية المتقدم للقضاء وله حق رفضه، مما يجنِّب القضاء وجود قاضٍ عنده عُقد نفسية أو عقلية فيؤثِّر على أحكامه!

المقابلات مهمَّة جدًا لكشف طبيعة المترشحين للوظائف وتفكيرهم شرط أن تُدار من قِبل أفراد ذوي كفاءة، ومتخصصين في هذا المجال، أما الاختبارات التحريرية فيفضَّل أن تسبر عمق تفكير الشخص، وجوانب التصرف، واتخاذ القرار لديه، بطرق التعبير التي أرجِّحها عن الاختيارات المتعددة.

كثيرٌ من الجهات التي تُعلن عن الوظائف تهمل جانبًا مهمًا وهو "الثقافة التنظيمية" ما يعني أن توافق المترشح للوظيفة مع الثقافة التنظيمية للجهة المعلنة عن الوظائف أمر أساسي ومنطقي، فقد يتصدَّر أحد المرشحين للوظيفة في جميع المراحل لكنه لا يتوافق مع الثقافة التنظيمية السائدة في الجهة المُعلنة، لهذا يُفترض أن يكون أعضاء لجنة المقابلات واعون بقيم الثقافة التنظيمية للمؤسسة وعيًا عميقًا لكي يتمكنوا بالمنطق والحدس من اختيار الكوادر المناسبة للمؤسسة.

هذه عينةٌ من الأخطاء في التوظيف تقع فيها بعض المؤسسات ضحية للشروط غير الصحيحة، ولطرق التوظيف غير الملائمة، وللأفراد غير الأكفاء الذين يختارون المتقدمين للوظائف، لهذا لن نستغرب أن نجد موظفين لا يناسبون العمل في وظائف معينة؛ بل لا يناسبون العمل في الجهة بأكملها!