حاتم الطائي
◄ "صقور" الإدارة الأمريكية ينفخون في نيران الحروب والصراعات لتحقيق أرباح سياسية
◄ استفزاز الصين وإسقاط روسيا في المستنقع الأوكراني.. نتائج سياسات "الصقور"
◄ حماية المصالح الوطنية والتزام الحياد وبناء الاقتصاد القوي.. ثلاثية الاستقرار في الشرق الأوسط
الصراعُ بين الخير والشر، أزليٌ وأبديٌ، ولم تكد البشرية تنفك من صراع حتى تنزلق إلى آخر.. وفي عالم السياسة، يمثل الصراعُ- في القلب منها- البؤرةَ التي تدور حولها الأحداث، وتتنافس فيها الشخوص المُؤثرة في سيرورة هذا الصراع، ولذلك ينقسم المتصارعون إلى فسطاطين؛ الأول غلاظ شداد متطرفون في كثير من الأحيان، هم بمثابة الصقور الجارحة التي تلتهم فريستها دون رحمة، وبكل عنف، مُستخدمة مخالبها الحادة، تمارس الشراسة في نهجها للإيقاع بالفريسة وتحقيق أهدافها. أما النوع الثاني من المتصارعين، فهم أقل حدة، يلجأون إلى الطرق غير المباشرة لإحراز الأهداف المنشودة؛ لضمان عدم استفزاز الخصم، يتبعون نهجًا سلميًا في أغلب الأحيان، لا يلجأون للعنف مطلقًا إلا إذا استدعت الظروف القهرية، وهم في سلوكهم هذا كالحمائم، لا يشكلون خطرًا وجوديًا على الآخر.
وإذا ما أسقطنا هذه التشبيهات على واقع السياسة في عالمنا، نجد أنها متطابقة حد التماثل التام، ومتشابهة لدرجة تُوحي بأن هذه الصقور وتلك الحمائم هي التي تملك فعليًا مفاتيح إدارة الصراع البشري. وتطبيقًا لهذه النظرة وتفعيلًا لتلك النظرية، فإنَّ الصراع القائم الآن في العالم بين القوى العظمى التي تحاول كل واحدة منها فرض هيمنتها وبسط نفوذها، إن لم يكن في أنحاء العالم- مثل الولايات المتحدة- فعلى الأقل في مناطق أمنها الحيوي، ومُحيط دائرة اهتماماتها الاستراتيجية؛ مثل الصين وروسيا.
وعلى مر العقود المنصرمة، انقسمت الإدارات الأمريكية إلى هذين الصنفين من الساسة، فهناك دائمًا الصقور أمثال جورج بوش ودونالد رامسفيلد وديك تشيني، هؤلاء الذين صكوا مصطلح "محور الشر" لوضع دول مثل العراق وأفغانستان في مرمى نيران الترسانة العسكرية الأمريكية، ومارسوا التدمير الممنهج لدولتين تحولتا فيما بعد إلى بؤرتين للإرهاب الدولي، على مدى ما يزيد عن 20 عامًا، في أسوأ استغلال للقوة العسكرية منذ الحرب العالمية الثانية. ولا ننسى مايك بومبيو رأس الحربة في إدارة دونالد ترامب والذي قبل أن يشغل منصب وزير الخارجية كان رئيسًا للاستخبارات الأمريكية المركزية "CIA" أو جون بولتون مستشار الأمن القومي الأمريكي رأس الأفعى التي بثت سمومها في أنحاء العالم، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، فقد كان بولتون عرّاب الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي الإيراني، والرجل الأول في محاولة الانقلاب الفاشلة التي جرت في فنزويلا للإطاحة بالرئيس اليساري نيكولاس مادورو، علاوة على أنه كان المحرك الأساسي والمحرض على السياسات المتطرفة التي نفذها رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الأراضي المحتلة، وكذلك هو من خطط ودبر بليلٍ مساعي الولايات المتحدة لتأسيس حلف عسكري بين الولايات المتحدة ودول في الشرق الأوسط، والذي عُرف آنذاك بـ"الناتو العربي"، والذي لم يخرج للنور؛ حيث وُئِدَ حيًا. والأسوأ من ذلك كله، أن بولتون هو مهندس تأجيج العلاقات الأمريكية الصينية، وهو الذي أوصل الصراع بين أكبر اقتصادين في العالم إلى حافة الحرب العسكرية، بعد أن شنت الولايات المتحدة أعنف حرب اقتصادية على الصين.
وهذا الصراع الذي تُشعله صقور الإدارات الأمريكية المُتعاقبة، من جهوريين وديمقراطيين، ضد الصين، أكد حاجة العالم لنظام جديد متعدد الأقطاب، نظام تستطيع فيه الدول أن تحقق مصالحها الاستراتيجية وأمنها القومي بعيدًا عن أية تهديدات أو ابتزاز سياسي أو اقتصادي، نظام يعاقب الدول الغاصبة للحقوق كما هو الحال مع دولة الاحتلال الإسرائيلي واحتلالها غير المشروع لفلسطين الأبية، نظام يضمن الحرية الاقتصادية دون فرض عقوبات ودون هيمنة عملة بعينها على اقتصاد العالم، نظام تتحرر فيه العولمة من الصبغة الغربية، وكأنَّ العولمة مرادف للغرب، في حين أنها التطور الطبيعي لانفتاح الدول على بعضها البعض.
الوقائع على مر العقود الماضية وفي الوقت الراهن، تؤكد أن الصراعات التي تشعلها الولايات المتحدة أو تؤجج نيرانها، لا تحقق سوى المصالح الأمريكية فقط، ولن نشير هنا إلى صراعات تاريخية في العراق أو أفغانستان أو في أفريقيا أو شرق آسيا، ولا حتى أمريكا الجنوبية؛ بل يكفي أن نلقي نظرة فاحصة على الصراع الدائر في أوكرانيا، وعملية الاستنزاف المُمنهج لروسيا، والاستفزاز المُتعمّد للرئيس فلاديمير بوتين، الذي ما لبث أن استعاد أمجاد روسيا التاريخية وبدأ في المنافسة على الزعامة العالمية، حتى انزلق في مستنقع أوكرانيا، وما الخسائر التي تتكبدها القوات الروسية وحتى الأوكرانية سوى جزء من مسلسل الاستنزاف الذي لن يتوقف على المدى المنظور.
إذن، يطل سؤال بالغ الأهمية برأسه في هذا السياق، وهو: ماذا نحن فاعلون كدول عربية وخليجية وشرق أوسطية؟
أقولها قولًا واحدًا: الحفاظ على الاستقرار والسلام في إقليمنا، ومواصلة حماية مصالحنا الاستراتيجية، انطلاقًا من أمننا القومي، والأهم من ذلك كله عدم الانجرار وراء أي دعوة لتأجيج الصراع في المنطقة، أو محاولة لإشعال فتيل حرب، والتزام الحياد الإيجابي الساعي لنشر السلام والوئام، والداعي لتعظيم المكاسب الاقتصادية من خلال التعاون المُثمر في شتى المجالات، والنأي بالنفس عن أية تصرفات- أحادية كانت أو جماعية- ربما تقضي على الاستقرار الهش الذي تعيش فيه المنطقة حاليًا.
ليس المطلوب مِنَّا أن نكون صقورًا أو حمائم؛ بل أن نضع مصالح أوطاننا أولًا في المُقدمة، وأن نتحلى بالبرجماتية من خلال مواصلة جهود ضمان استتباب الأمن، والحفاظ على المنجزات الوطنية والتركيز على بناء اقتصادات قوية متنوعة قادرة على الصمود في وجه الأزمات، وخلق فرص العمل وجذب الاستثمارات.
ويبقى القول.. إنَّ ضمان النمو الاقتصادي، والحفاظ على الأمن، وضمان الاستقرار، أعمدةٌ ثلاثة لبناء الدولة القوية، فقوة الاقتصاد هي التي تحمي وليست الجيوش وحدها والمعدات والآليات العسكرية، فهما طرفان في معادلة واحدة، لكن يظل الاقتصاد عصب الحياة وعمودها الفقري، ولنعلم عِلم اليقين أنَّ الحروب العبثية الخاسرة لن نجني منها سوى الخراب والتدمير والفقر، أمَّا التنمية والبناء والعمل الجماعي المشترك فستحقق لنا الاستقرار والازدهار والنماء، ولنا في التاريخ المثل والعبرة.. فهل من متعظٍ؟!