العمالة الرخيصة في زمن اقتصاد المعرفة

 

مرفت بنت عبدالعزيز العريمية

 

يتداول الكثيرون مصطلح العمالة الرخيصة في وصف بعض العمالة التي تعمل بأجور أحياناً تكون بسيطة، لأنهم يمتلكون مهارات عمل بسيطة، والبعض الآخر قد لا يمتلك أية مهارة، ويأتي ليتعلم في رؤوسنا، فنحن بمثابة فئران تجارب لهذه العمالة التي تكتسب مهارة وخبرات بموافقتنا، نعم هذه حقيقة، فعندما نقبل أن نستورد خدمات رخيصة توفيرًا لريالات قليلة نفقد في المقابل أشياء كثيرة ولا تقدر بثمن كالصحة والأمان، فنحن نستورد مع العمالة ثقافتهم وأخلاقهم وعاداتهم فلا أحد يُسافر من بلده مجرداً من ثقافته وأخلاقه، فالإنسان ينتقل من مكانه كحزمة متكاملة من سلوكيات وثقافة.

لا تكاد تمر أيام حتى نسمع من الجهات المختصة أنها أقفلت بالشمع الأحمر مطاعم تعد الطعام في دورات المياه أعزكم الله، أو مغسلة تغسل الملابس في أحواض مائية في الأفنية البعيدة عن أعين الناس، أو القبض على عمالة تروج للدعارة أو الخمور المغشوشة أو المؤثرات العقلية أو عمالة منزلية تسيء معاملة الأطفال أو جرائم تحرش أو اغتصاب أو القتل والمسلسل لا ينتهي وكل يوم نتفاجأ بسلوكيات غريبة ومبتكرة في عالم الجريمة.

سلوكيات لم تأت من فراغ؛ بل نتيجة استقدام خدمات رخيصة تمتلك أدنى مستوى من المهارات ونشأت في بيئات موبوءة، ولا أعلم لماذا يطلق عليهم عمالة رخيصة، فما يقومون به من تجاوزات تكلف الدولة الكثير من الأموال والجهود لإصلاح الضرر، وبعض الضرر لا يمكن إصلاحه.

فعندما أوظف عمالة رخيصة في قطاع البناء، مثلاً فأنا أعرض أرواح الناس للخطر، ولعل الحوادث الناتجة عن احتراق المنازل بسبب توصيلات خاطئة للكهرباء، أو ظهور عيوب كبيرة في البناء تهدد حياة ساكنيها لمبنى سكني لا يزيد عمره عن عام، مؤشر على أن العمالة ليست رخيصة.

عندما نسمح لثقافة فري فيزا أو التجارة المُستترة أن تنتشر فإننا نسمح للعمالة أن تنتشر في البلاد باحثة عن عمل، فهي تنافس أبناء الوطن في لقمة عيشهم بخدمات رخيصة مقابل مبالغ ليست زهيدة، ومشروعات تقدم أدنى الخدمات وسلع رديئة وأحيانا مغشوشة.

فهي تدمر البنية الاقتصادية بالتجارة المستترة خلف كفيل باع لها الفيزا وتركها تنشر ثقافتها في كل أرجاء المجتمع، وتمثل تهديدا للنظام الصحي بمزيد من المرضى ضحايا السلع والخدمات الفاسدة.

فالعامل لم يترك وطنه إلا بحثًا عن أمل وهروبًا من الفقر والعوز، والكثير منهم يقعون ضحايا في أيدي سماسرة الفيزا (المأذونيات) الذين يبيعونهم كل ما يملكون، والبعض قد يستدين حتى يحظى بفرصة عمل خارج البلد، بالتالي فهم يعدون منافسين شرسين سيضطرون لعمل أي شيء حتى يكسبوا المال لسداد الدين لسماسرة الفيزا من الطرفين.

هناك أبعاد أخرى للعمالة الرخيصة، فإلى جانب ما ذكرت سابقًا، فإن زيادة أعداد العاملة المهاجرة دون تحديد حد أعلى لتواجدهم على أرض البلاد، قد يتسببون في تغيير ديمغرافية البلاد، وقد يطالبون بحقوق أكثر من فرص عمل، خصوصًا إنْ أصبحوا متساوين في العدد مع المواطنين أو إن زادوا قليلًا، وقد حدث ذلك في الكثير من دول العالم التي رضخت للمطالب.

ومنذ السبعينيات ومع الطفرة النفطية، بدأت ملامح المشكلة تهدد الهوية المحلية، وثقافة المنطقة، لذلك وضعت بعض الدول شروطًا كثيرة وتفصيلية، لاستقدام العمالة وضوابط؛ منها: رفع اشترطات قدوم العمالة والتدقيق المكثف على مؤهلاتهم، فقد شهدنا حالات لتزوير مؤهلات في مهن حساسة كالطب والهندسة والتمريض، لذلك يتطلب الأمر أكثر من سيرة ذاتية وأصبح إجراء اختبارات لقياس المهارة غير فحوصات طبية جسدية ونفسية من الضروريات الحتمية.

من الضروري أن تكون هناك جهة أو كيان معني بالعمالة الوافدة تضع شروط ومعايير استقدام العمالة، وتنتقي الأفضل من حيث المهارات، وتراقب عملهم وتنظمه، وتعالج مشكلاتهم، وتحدد أماكن سكنهم بعيدا عن الأحياء السكنية في سكنات خاصة بالعزاب. وأن يكون استقدام العمالة وفق اتفاقيات توقع مع دولهم لضمان جودة الأعمال وجلب عمالة ماهرة ومدربة.

واستقدام أعداد كبيرة من العمالة غير ماهرة أو مؤهلة أو التي تم تأهيلها بعشوائية، وخرجت من بلدانها باحثة عن أية فرصة- حتى وإن كانت أعمال منافية للآداب والأخلاق- كأننا نفتح الباب لسيل من الجرائم والمشكلات الاجتماعية والاقتصادية بما يمثل هدرًا للموارد. ولا ننسى التحويلات الكبيرة للعمالة الوافدة التي بلغت 3 مليارات ريال عماني عام 2021، فمعظمهم لا يمثل قوة شرائية أو عنصرًا لتشغيل الاقتصاد المحلي فالكثير مما يجمعه أغلبهم يتم تحويله لأوطانهم.

مؤخرًا اتخذت بعض الدول الخليجية إجراءات صارمة لإعادة هيكلة استقدام العمالة، وقامت بترحيل أعداد كبيرة ممن لا ينطبق عليهم الشروط والمعايير، وذلك نتيجة لمشكلات اجتماعية وأمنية، لذا أصبح من الضروري التعامل مع ملف استقدام العمالة من الخارج وفق المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية الراهنة كموضوع متكامل يمس المجتمع وهويته.

إنَّنا في عصر المعرفة بحاجة إلى عمالة ماهرة متخصصة، فاقتصاديات الدول الصناعية الكبرى بُنيَت بالعمالة الماهرة التي منحت الفرص بمعايير استقدام دقيقة، وبالتالي إن رغبنا في بناء اقتصاد قوي لا بُد من تغيير معايير استقدام العمالة، والاتجاه نحو استقطاب العمالة الماهرة المدرَّبة من مختلف المجالات حتى في مجال العمالة المنزلية؛ فالتجارب السابقة أثبتت أن العمالة غير الماهرة تمثل ضررًا على المجتمع والثقافة والاقتصاد.