المهر من "المغبور"

 

د. عبدالله باحجاج

"المغبور" عبارة عن مبلغ نقدي أو عيني يُقدَّم للعريس من أفراد المجتمع؛ سواءً كانوا أقاربه أو معارفه أو من بني مجتمعه، وهي عادة اجتماعية قديمة في محافظة ظفار ولا تزال قائمة حتى الآن بنفس قوة الاستمرارية، وإنْ كنّا نخشى عليها من التداعيات المالية.

البعض يُقدِم عليها كمُبادرة لصناعة فعل يقابل غالبًا بردة فعل لاحقة من العريس أو ولي أمره، قد تكون- أي ردة الفعل- مساوية لحجم الفعل المالي أو أقل قليلًا، أو أكثر، وآخرون يعتبرونها جزءًا من مسؤوليتهم الاجتماعية أو الدينية تجاه مجتمعهم، ويغطي المغبور تكاليف الزواج التي قد يستدينها العريس، فيصبح بعد العرس مُتحررًا من ديونه كلها أو الجزء الكبير منها، إن لجأ للاستدانة، وهي تبدو هنا أفضل نموذج للتكافل الاجتماعي أسّسه الأجداد، وحرص على ديمومته الآباء، ويحاول الأبناء والأحفاد التمسك بها مهما كانت التحديات، ويبدو أنها كبيرة، وستتعاظم، كلما تستحكم الظروف المالية المعقدة على أفراد المجتمع في ظل التحولات المالية الكبرى التي تتخذها الحكومة منذ ثلاث سنوات.

وقد اطلعت على حالتين نموذجيتين نقدمهما هنا للاستدلال على أهمية بقاء عادة المغبور، والتمسك بها اجتماعيًا مهما كانت التحديات المالية. الحالة الأولى ما يُعبّر عنه عنوان المقال، فقد طلب أهل العريس من أهل العروسة تأجيل دفع المهر من المغبور إلى ما بعد العرس، نظرًا لعدم مقدرتهم على توفيره ولو بالاستدانة، وقبول أهل العروسة هذا التأجيل ينم عن حكمتها وبُعد نظرها، وهذا وعي أسري نمرره هنا بغية التأكيد على أهمية تيسير الزواج مراعاة للواقع الاجتماعي الجديد، والتخفيف من إجراءات الزواج مراعاة لتقلبات أحوال الناس المالية نتيجة ظروف خارجة عن إرادتهم.

فما أجلَّ، وما أعظم مثل هذا التيسير، لأنه يتجاوز كل الممارسات الاجتماعية المتعارف عليها، ولأنه قرار أسرة استثنائي في إطار زمانه ومكانه، وينم عن فهم بالدين في مآلاته المعاصرة، انطلاقًا من قول رسولنا الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير". والشاب تنطبق عليه كامل الشروط الاستحقاقية للحديث الشريف، لكن إشكاليته عدم استطاعته توفير المهر ولو بالاستدانة، وهذه الإشكالية قد تواجه الآلاف من شبابنا في ظل الرواتب المتدنية، والكل يعلم أحجامها، والعلم كذلك أن هناك الآلاف الذين يشتغلون عليها منذ تحديد الحد الأدنى للرواتب عند 325 ريالًا، وهناك رواتب أقل من هذا الحد الأدنى، وهناك أخرى أعلى منها وتصل بين 400 و500 و600 ريال، فهل تفتح أسرة أو تبني منزلًا بأحجامها المجردة، فكيف إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الضرائب والرسوم ورفع الدعم الحكومي عن خدمات أساسية؟

من هنا.. تمسكت أسرة العروس بالعريس لدينه وأخلاقه، واخترقت الأعراف والعادات، ولم تخشَ من "القيل والقال"، فقد قدّرَت ظروف الشاب المالية، ومن ثم أكرمه الله بمغبور وقدره 12 ألف ريال، ومن خلاله تمكنت أسرته من دفع المهر، والوفاء بمبالغ متطلبات وإجراءات الزواج، وهكذا يكون مصير الرهان على الدين والأخلاق، وهكذا تكون القرارات الأسرية في حقبة التعقيدات المالية المعاصرة، فهل تشكل هذه القصة إلهاما للأسر؟ ومن ثم تفتح كل أبواب التيسير، بما فيها تحديد سقف المهر؟

من المفارقات الصارخة للوعي الاجتماعي أن شابًا راتبه 325 ريالًا، عندما خطب فتاة قريبة له، حددوا المهر عليه 10 آلاف ريال.. فأين هذا التحديد من واقع راتب هذا الشاب؟ إن مثل هذه الأسر لا تعيش واقع الشباب المعاصر، هي في وادٍ، وواقعهم في وادٍ آخر، فكيف إذا ما استمر هذان الواقعان؟

الحالة النموذجية الثانية، إقدام أم عريس على استدانة 6 آلاف ريال لإقامة عُرس ابنها الأكبر بعد أن بلغ سن 37 عامًا، بعد انتظار طويل حتى تم أولًا الحصول على وظيفة ومن ثم تجهيز غرفته الزوجية، وكانت عملية البحث عن الستة آلاف درامية، ذهبت لأقربائها، فلم تجد آذانًا صاغية، لكنها لم تيأس حتى وفرتها من أهل الخير، وقد عاشت أيامًا وهي في حالة قلق من عدم تمكن مغبورهم من الوفاء بديونها، وعندما فتحت حقيبة المغبور مساء العرس، لم تتمالك المرأة نفسها، فانهارت دموعها أنهارًا، إنها دموع الفرح، دموع الشكر والحمد، فلم تصدق بعد الخوف أن حجم مغبورهم تجاوز 9 آلاف ريال، وأنها ستوفر 3 آلاف بعد سداد الدين، والشاهد على دموعها مصدر مُقرب مني.

هكذا يتضح لنا الأهمية الاجتماعية لعادة المغبور ودورها في حل قضايا مديونية الزواج، لكن ورغم قوة الاستمرار فيها، لكنها تعاني- أي العادة الاجتماعية- من تحديات، تتجلى حتى الآن في تقليص المساهمة النقدية عند الكثير من المُواطنين بسبب التحولات المالية، فمن 20 ريالًا، تتقلص الآن إلى النصف، وفي حالات تتقلص إلى 5 ريالات، وهناك حالات محدودة جدًا، تكتفي بالمشاركة دون المساهمة النقدية، وهم من فئة كبار السن، وتجاهر باعتذارها لأهل العريس. وتقديراتي أنَّه كلما تستحكم تداعيات التحولات المالية للدولة على المجتمع، وتتعمق قضية الباحثين عن عمل، ويستمر الحد الأدنى للرواتب، ستؤثر سلبًا على المغبور، وبالتالي على إقدام الشباب على الزواج، عندها ستكون المآلات مفتوحة، وهي معلومة بالضرورة، وينبغي هنا أن ننظر إليها في حالة عدم التراجع عن بعض السياسات المالية والقوانين، مثل قرار الحد الأدنى للرواتب، فتداعياتها عندئذٍ ستطال المؤسسات الزوجية القائمة، وتماسك كياناتها.

فما الحل؟!

نراه في 3 مسائل مهمة وعاجلة:

1- ثنائية المغبور "تكافلية وتضامنية"؛ الأولى هي السائدة؛ حيث تأخذ صفتها من "كفل" ويشترك فيها كل فئات المجتمع، وتتوقف عند الفعل وردة الفعل، وهي تدخل في سياق التكافل الاجتماعي، وهي قابلة للتأثر بالتحولات المالية للبلاد. أما الثانية، فهي تدخل في التزام الأغنياء والمقتدرين بالمساهمة النقدية في كل عُرس داخل مجتمعهم دون الاعتداد بالفعل وردة والفعل. وهنا نطالب أغنياء ومقتدري كل مجتمع محلي بألا ينظروا إلى "الدفتر" لمعرفة مغبور الآخرين في أعراسهم السابقة، فليحرقوا كل دفاترهم السابقة، ويلغوا ثقافة رد المغبور، وليساهموا في أعراس كل أبناء مجتمعاتهم المحلية كجزء من مسؤوليتهم الاجتماعية؛ أي كواجبٍ ملزمٍ أخلاقيًا ودينيًا لمساعدة الجيل الجديد على تأسيس مؤسساتهم الزوجية، وهم في حاجة للأجر من نتيجة الفعل نفسه، ومن ثواب نتائجه المستدامة، وليس انتظار رد المغبور.

2- تحديد المهور: نرفع هذا الملف للجنتي الشؤون البلدية والخدمات الاجتماعية، وهنا نطالب الفاعلين فيهما بتفعيل خاصية التنسيق القانونية فيما بينهما، والعمل على تحديد المهر بالتنسيق مع المراجع المختلفة في المحافظة وفق الظروف المالية لجيلنا الجديد، ونقترح أن يكون هذا التحديد على مستوى البلاد.

3- تأسيس صندوق للزواج: وذلك بصورة عاجلة في كل محافظة، يساهم فيه أغنياء ومقتدرو كل محافظة، ولسنا ندرى لماذا لم تنفذ التوجيهات السامية بإقامة هذا الصندوق حتى الآن؟!

تظل القضية التالية تكمن في ديمومة المؤسسات الزوجية في عصر الرواتب المتدنية والضرائب ورفع الدعم الاجتماعي؛ فحالات الطلاق وصلت إلى مؤشرات مقلقة في كل محافظات البلاد مع التباين، وهنا دعوة لمراجعة كل السياسات المالية والقانونية والقرارات التي اتخذت إبّان الأزمتين النفطية والصحية (كورونا)؛ إذ إن أوضاعنا المالية أفضل بكثير من تلك التي كانت قبل الأزمتين، لذلك لا نرى مسوغًا لاستمرارها إذا ما كانت الحجة المالية السبب، ونجدد إيماننا في القول إنها اتخذتها كحجة لإدخال إصلاحات بنيوية لن تُمرر إلّا بوجود أزمات كبرى.. إلخ، ولسنا ضد الإصلاحات من حيث المبدأ، لكن بشروط أبرزها الحفاظ على قوة المجتمع وتماسكه.. التكملة في مقال قادم.