البعد الفكري لرؤية "السعودية 2030"

د. محمد بن عوض المشيخي **

"المملكة العربية السعودية وقيادتها الحكيمة" عنوان بارز يسيطر بلا منازع على الساحة الإقليمية والدولية؛ منذ عدة أعوام، إنها قصة نجاح شعب عظيم يقوده ربان حكيم ممسك بزمام المبادرات التي تلامس احتياجات الوطن والمواطن في بلد الحرمين الشريفين؛ فكل من يتابع عن قرب ينبهر بالإنجازات العظيمة التي أصبحت حديث قادة الفكر ورواد التنمية الاقتصادية على الساحة الدولية.

فالأمير الشاب محمد بن سلمان ولي العهد، هو عرّاب رؤية "المملكة 2030" ومشرفها الأعلى ومُنفِّذ بنودها على أرض المملكة؛ بما تحمله من أهداف إنسانية وفكرية واقتصادية، وتهدف بالدرجة الأولى إلى اسعاد المواطن العادي وتوفير حياة كريمة له وازدهار اقتصادي لجميع أبناء المملكة، فقد كسب هذا القائد المقدام القلوب والعقول على حدٍ سواء. فمن ممكنات هذه الرؤية مشاركة جميع أفراد المجتمع في خدمة الوطن بما فيهم المرأة السعودية والمشاركة المجتمعية بكل أبعادها المختلفة؛ فنصف المجتمع الذي كان مُعطَّلًا إلّا في الحد الأدنى من الوظائف المحدودة كالتدريس والمهن الطبية، لكنه انخرط الآن في مختلف الميادين وقطاعات الإنتاج. فشقائق الرجال يعملن الآن جنبًا إلى جنب مع أخيهن الرجل السعودي في بناء الوطن، وذلك في إطار مظلة الدين الحنيف والقيم والأخلاق الإسلامية. فقد سجلت المملكة العربية السعودية العام المنصرم رقمًا قياسيًا في النمو الاقتصادي الذي لامس 7%، متجاوزة بذلك معظم دول العالم. صحيحٌ أن هناك من يعتقد بأن استراتيجية المملكة الحالية تتمحور فقط حول التنمية الاقتصادية والمباني الاسمنتية والمدن التي تُزيّنها ناطحات السحاب فقط، غير أنه في واقع الأمر يعيش هذا البلد العزيز، التنمية الحقيقية التي تسهدف الإنسان؛ بأبعادها الثلاثة المعروفة بما فيها التنمية الثقافية والاجتماعية والسياسية.

من هنا وجب الكشف عن البعد الفكري لرؤية "المملكة 2030" التي تتمحور حول العديد من القيم والمبادئ الوطنية الاصيلة، والمتمثلة في الوسطية والاعتدال والانفتاح على ثقافات الشعوب الأخرى وفكرة تقبل الآخر، بعيدا عن التطرف ونبذ العنف بكل اشكاله.

لا شك أن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، كان وما زال له الفضل- بعد الله- في النهضة الثقافية التي تعيشها المملكة منذ عقود، فكلما زرتُ بلد الحرمين؛ ترِدُ إلى مسامعي من الكتاب والمفكرين السعوديين، روائع هذا الملك، فمنذ توليه إمارة منطقة الرياض ومرورًا بولايته للعهد ثم توليه زمام القيادة في المملكة؛ كان وما يزال مصدر إلهام للمفكرين والعلماء؛ إذ يخصص يومًا في الأسبوع لكي يُقابل الأكاديميين وأصحاب الرأي والعقد من مختلف أرجاء المملكة في قصره بالرياض، لتبادل الرؤى ومناقشة هموم الأمة وتبادل الأفكار حول مستقبل المجتمع السعودي.

ومن القصص الإنسانية الرائعة التي رواها لي عميد شؤون الطلبة في جامعة الملك سعود قبل أكثر من عقد من الزمن، متابعة الملك سلمان شخصيًا- عندما كان أميرًا للرياض- أحوال الطلبة والطالبات وتذليل التحديات التي تواجه طلبة العلم، خاصة الطالبات في السكن الجامعي؛ إذ ترد توجيهات إنسانية واتصالات هاتفية إلى العميد في هذا الشأن الذي قد يراه البعض أنه بسيط، ولكنه ينم عن نظرة ثاقبة وسمو القيادة الناجحة في الاهتمام بالاخرين من عامة الناس.

من هنا أصبحت الجامعات السعودية التي ينهل من علمها الشباب السعودي في مقدمة الجامعات على المستوى العالمي، فقد احتلت جامعة الملك عبد العزيز المرتبة الأولى عربيًا وللعام الثاني على التوالي، بينما أتتْ 6 جامعات سعودية؛ منها جامعة الملك سعود بالرياض في المراكز العشر الأولى على مستوى الوطن العربي، وذلك في تصنيف (QS) البريطاني. وهذا يعكس نجاح السعودية في الارتقاء بالاجيال الصاعدة ومدهم بالمعرفة والمهارات التي تصقلهم وتساعدهم على الانخراط في سوق العمل الذي بحاجة لكوادر وطنية ومدرّبة لتحقيق رؤية السعودية الطموحة التي من المفترض أن تجعل المملكة في مصاف الدول المتقدمة. والعمل مستمر على قدم وساق في مجال الملكية الفكرية التي وجدت في الأساس لدعم رؤية "السعودية 2030"، خاصة في الاختراعات العلمية، فمن المفترض أن يصل عدد المخترعين الشباب إلى 13 ألفَ عالمٍ بحلول 2028، وذلك بهدف تعزيز مكانة المملكة كإحدى الدول العشر الأولى على مؤشر التنافسية العالمية بحلول 2030، صعودًا من المرتبة رقم 24 حاليًا.

يبدو لي أن النهضة الفكرية التي تعيشها الشقيقة السعودية تسير بخطى ثابتة نحو معانقة المجد، فقد تشرفتُ الأسبوع الماضي بدعوةٍ كريمةٍ من سعادة الرئيس التنفيذي لهيئة المسرح والفنون الأدائية في المملكة لحضور مهرجان "قِمم الدولي" في مدينة أبها؛ إذ كان للفنون والتراث والفلكور الشعبي حضورًا رائعًا بين أبناء عسير؛ فالذي يميز النسخة الثانية من هذا المهرجان الثقافي السنوي، مشاركة 14 دولة من مختلف دول العالم، فقد كانت السلطنة الدولة الخليجية الوحيدة التي شاركت بفرقة متكاملة من 28 فردًا يقدمون فن الربوبة الشهير في المدن والقرى المجاورة لأبها وخميس مشيط طوال أسبوع كامل، وهذا يعكس الاهتمام بالثقافة والفن والتواصل الثقافي مع شعوب العالم.

لا شك أن هذه الإنجازات التي تحققت على أرض المملكة العربية السعودية الشقيقة، محل فخر لكل عربي ومسلم وعلى وجه الخصوص الشعب العُماني وقيادته الرشيدة التي تعمل بعزيمة وإصرار على تحقيق رؤيتها الوطنية الطموحة "عُمان 2040"، والتي تتماهى مع رؤية "السعودية 2030" في عدد من الجوانب؛ فالعلاقات العُمانية السعودية من النماذج الناجحة بكل المقاييس، فبعد "قمة نيوم" التي جمعت عاهلي البلدين الشقيقين، وكذلك استقبال حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- أيده الله- صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان في مسقط؛ إذ تسعى هذه العلاقات الأخوية للتحوّل من التعاون إلى التكامل في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية.

ولعل أهم ثمار هذه التعاضد الأخوي بين قطبي مجلس التعاون الخليجي، جهود سلطنة عُمان في وقف الحرب في اليمن التي بدأت بهدنة ثم تفاهمات بين الأطراف الفاعلة في الملف اليمني، وذلك بالتنسيق الكامل والمباركة من القيادة السعودية. كما إن الاستثمارات التي بدأت تأخذ طريقها إلى الموانئ والمناطق الصناعية الواعدة في سلطنة عُمان، خاصة المنطقة الاقتصادية الخاصة في الدقم، تمثل عنوانًا للمرحلة المقبلة بين البلدين الشقيقين.

وفي الختام.. واجبٌ علينا هنا التذكير بجهود سفراء الخير والسلام والمحبة: صاحب السمو السيد فيصل بن تركي آل سعيد سفير سلطنة عُمان في الرياض، وسعادة عبدالله العنزي سفير المملكة العربية السعودية في مسقط، اللذين كان لهما بصماتٍ مميزة في نقل هذه العلاقات الأخوية بين الشعبين العُماني والسعودي إلى التكامل وتوحيد المواقف الثنائية على المستوى الاقليمي والدولي؛ إذ أصبحت العلاقات بين القيادتين العُمانية والسعودية من النماذج التي يُشار لها بالبنان في المنطقة.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري