الأستاذة.. الدكتورة!

 

فاطمة اليماني

"اللعنة على الجهل المقدس".. الفيسلوف الإيطالي جوردانو برونو.

 

*****

كان خطؤها أنّها سلّمت عليها، وصافحتها، وقالت لها:

  • كيف الحال دكتورة؟

فاعتقدَت أنّها تستهزئ بها؛ لتردّ عليها بصوتٍ مُتَشنّج:

  • لستُ دكتورة! أنا أستاذة! ما زلتُ طالبة دكتوراة! لم أحصل بعد على شهادة الدكتوراة!

فأوضّحَت لها بأنّ الأمر التبس عَلَيّها؛ لأنّ زميلتها أخبرتها بأنّ الأستاذة حصلت على شهادة الدكتوراة!

ثمّ التقَت بها بعد شهر؛ عندما دخلَت غرفة المعلمات قاصدةً زميلتها التي صرعتها برسائلها، وهي تطلب منّها تبديل الحصص؛ حتّى تتمكن من الذهاب إلى المستشفى، حرصًا منها على عدم التفريط بأيّ حصّة من حصصها.

فصافحَتها، وسلّمَت عليها؛ وليتها لمْ تصافحها، ولم تُسَلِم عليها، وقالت لها:

  • كيف حالك أستاذة؟

فردَّت عليّها وهي تنتفضُ كمن أصابها ماسّ كهربائي:

  • دكتورة... دكتورة!!

وأَيْقَنتُ بعدها بأنّ هذه الإنسانة المُتغطرِسة تعاني من خَلَلٍ ما! خاصّة وأنّ العديد من الإداريات والمعلمات حصلن على شهادة الدكتوراة، ولم يصبن بهذا النوع من التعالي؛ بل إنّ بعضهن اكتفى باللقب في البحوث، والفعاليات التي يقدمنها، وهذا حقّ من حقوقهن المشروعة؛ بعد أنْ قطعن شوطًا في التعليم، والجدّ والاجتهاد، ونلن الشهادة عن جدارة واستحقاق.

عادَت إلى حصصها وطالباتها، ولم تَتذكر ردّة فعل الدكتورة إلّا في الحصّة الثامنة؛ عندما أقبلت إحدى زميلاتها تسألها عن كتاب في إعراب القرآن الكريم؛

وأخبرتها بأنّ الدكتورة كانَت مستاءة منّها؛ لأنّها قالت لها أستاذة!

ثم أخبرتها عن هوس الدكتورة باللّقب؛ وبأنّها نبّهت المعلمة الأولى بأنّ تدرج حرف (الدال) قبل كتابة اسمها في أيّ تغريدة، أو مراسلة، أو أيّ خطاب رسمي موّجه إليها، أو يكون اسمها مدرجًا فيه!

وفي نفس الأسبوع، وفي أحد الاجتماعات الدورية للمادّة؛ دخلت العاملة، ووضعت أمام الدكتورة دلّة الشاي، وقنينة ماء، وقالت لها تفضلي يا أستاذة؛ فقالت للعاملة؛ بعد أنْ تأفّفت:

  • دكتورة... دكتورة.

فتابعت العاملة طريقها، غير مدركة للفرق؛ بل كانت تعتقد أنّها طبيبة!

فهموم العاملة أكبر من الجدل حول ماذا تكون؛ لأنّها تفكر في تنظيف ساحة المدرسة بعد الفسحة، في نفس اللحظة التي يجب عليها أنْ تبخّر غرفة الاستقبال، لتظلّ الرائحة منعشة خلال اليوم الدراسي، وأنْ تنادي على طالبة مريضة، في أحد الفصول.

وابتدأت بالطالبة المريضة؛ حيث ذهبت إليها، وحملت حقيبتها، وأوصلتها إلى غرفة المديرة؛ التي سألتها عن والديها؛ إذا سيحضر أحدهما لأخذها من المدرسة؟ فأخبرت المديرة بأنّ والدها يعمل بعيدًا عن المدينة، ووالدتها لا تقود سيارة من الأساس!

فطلبت المديرة من الطالبة الهدوء، وعدم القلق؛ لأنّ العاملة سترافقها إلى المستشفى للعلاج، وستعيدها بعد ذلك إلى المنزل هي وأدويتها!

فقالت لها العاملة:

  • لدينا دكتورة في المدرسة، لماذا لا تكشف عليها!

ضحكت المديرة، وأخبرتها عن الفرق بين الطبيبة، وبين الدكتورة الأستاذة العالمة! وظلّت أسئلة مبهمة ترفرف فوق دماغ العاملة؛ لأنّها لا تعرف السِرّ في تسمية الجميع بنفس اللقب؟!

فالطبيبة دكتورة، والأستاذة دكتورة؟!

والأفضل أنْ تتمايز الألقاب، ويتم تخصيصها، ثم تعميمها على الجميع؛ للتفريق بين د. الطبيب، ود. المُتخصص، ود. العالم، ود. المتعلم، ود. من اشترى الشهادة، ود. من سرقها؟! وليكون الجميع على بيّنة، فلا لغط، ولا متاهة تصيب أذن القارئ، والسامع حال رؤية حرف (د) قبل الأسماء والألقاب!

وكانت تلك الأسئلة التي تدور في ذهن العاملة؛ هي نفس الأسئلة التي تدور في ذهنها، والفرق أنّها كانت دافعًا للنَبْشِ عن سرّ تعصّبها للّقب الذي حصلت عليه، وكيف تعتقد بأنّ على الجميع أنْ يعرف بأنّها أخذت الدكتوراة، وبأنّها دكتورة من الأساس؟

فهذه المرأة- حسب ظنّها- كانت من المشرفات المجتهدات المخلصات في عملهن؛ لكنّها صادرت حياتها في سبيل الشهادات والعلم، ورفضت الزواج من شخص لم يواصل تعليمه الجامعي، وبعد حصولها على الماجستير، رفضت الزواج برجل جامعي، وانتظَرت دارس الماجستير؛ وبعد حصولها على الدكتوراة؛ اكتشفت أنّها على مشارف الخمسين؛ فقالت للجميع:

  • لا مانع من الزواج بابن الحلال؟! أيًّا كانت شهادته! وبإمكاني حثّه على مواصلة تعليمه!

وعندما وصل الخبر للعريس الأخير الذي كان يفكر في الزواج بها، تخيل نفسه ممسكًا بقلم وكتاب، حاملًا حقيبة مدرسية على ظهره! وشعر بالاختناق عندما أوصله خياله إلى قاعة الاختبارات! وهو في مثل هذا العمر!

فألغى الخطبة، وصرف النظر عن الزواج بها. وعندما عرفت السبب؛ قالت لقريبته:

  • هو الخسران! أنا دكتورة، طموحة، والحمد لله أنّه صرف النظر؛ حتّى لا أتصادَم مع جهله!

ثمّ قرّرت الانغماس في عملها، والتركيز على تطوير نفسها، والتقطت صورًا لشهادتها، وحفل تخرّجها، وأنزلتها في مواقع التواصل، وشغلت نفسها بإعداد البرامج والفعاليات التي تتحدث عن ضرورة تطبيق أنظمة التعليم الحديثة! التي لم تتطور إلّا بإدراج التقانة فقط؛ فالمعلومة هي نفسها، والمعارف والمفاهيم هي نفسها لم تتغير منذ أكثر من عقد!

إنّما تغيّر طريقة العرض، واستبدلت الكتب الورقية بالكتب الإلكترونية، وأرفقت معها الصور الموضّحة لها. وبهذا يسهل الادّعاء بأنّ التعليم تمّ تطويره! وبأنّ استراتيجيات التعليم الحديثة؛ تمكّن الطالب من بلع المعلومة، وهضمها!

فاقترحت فتح صف ذكي، يحتوي على مجموعة من الطالبات المتفوّقات، وطُلِب من كل طالبة إحضار (تابلت)؛ ليكون بديلًا عن الحقيبة التعليمية، وتمّ استبدال الكتب الورقية؛ بالكتب الرقمية الالكترونية؛ وشرح الدروس عن طريق السبورة التفاعلية؛ وأداء الاختبارات القصيرة، وتصحيحها الكترونيًّا.

لكنّ الأمّهات طالبت إدارة المدرسة بالتوقّف عن التدريس بالطرق التفاعلية الحديثة!  وطالبن المعلمات بالعودة إلى الكتب والدفاتر قبيل الامتحانات؛ وأنْ تُعْطَى الطالبات النسخ الورقية من جميع الأنشطة التي تمّ إدراجها في الحاسوب؛ لتتمكن الطالبات من المذاكرة بعيدًا عن شاشة الأجهزة التي ترهق العيون، وتتعب الذهن!

وعندما علمت الدكتورة بانزعاج الأمّهات؛ أرادت أنْ تحسّن صورتها لدى إدارة المدرسة، واستحدثت مسابقة أطلقت عليها اسم (الجائزة الكبرى)، وقالت إنّ كل من ستجيب على الأسئلة، سَيُدْرَجُ اسمها تحت قائمة (الطالبة العبقرية)!

 وعرضت المسابقة باستخدام أحد التطبيقات الذكية الحديثة؛ حيث تختار الطالبة رقمًا، ويظهر السؤال على الشاشة، فإذا كانت الإجابة صحيحة، تحصل الطالبة على نقاط مكافِئة، وإذا كانت خاطئة، تظهر علامة خطأ، وصوت إنذار!

وبما أنّ الأسئلة من إعداد الدكتورة العبقرية؛ فلم تتمكن الطالبات من الإجابة على أيّ سؤال من هذه الأسئلة المعقّدة، وانتهت الفعالية التي تمّ توثيقها، وتصوير تمثيل تفاعل الطالبات معها، بحمل الدكتورة لسّلة مليئة بأقلام الرصاص البدائية الغبية! كانت قد استعارتها من إحدى المعلمات لأنها نست إحضار هدايا تقنية ذكية!

فعادت بها إلى غرفة المعلمات!

وعندما وضعتها على الطاولة؛ قالت للمعلمة صاحبة الأقلام:

  • جيل فاشل!