أمل سلمان لـ"الرؤية": الأدب من ضروريات الحياة.. والعُمانيات المبدعات سيصلن للعالمية

الرؤية- ناصر أبوعون

تؤكد الدكتورة أمل سلمان حسان، دكتوراه في اللغة العربية تخصص البلاغة والنقد الحديث في جامعة بغداد، أهمية أن يحمل الأدب رسالة أخلاقية أو علمية أو تربوية أو سياسية أو اجتماعية، حتى يُشبع الحاجة المُلحة لدى القرّاء، موضحة الأديب اليوم مطالب بعمل إيجابي وإيثار وتضحية بالذات في سبيل الآخرين الغارقين في محن الحياة.

كيف ظهر عشقك للأدب وما هو مذهبك النقدي؟

عشقي للأدب بكل أجناسه ومذاهبه سبق تخصصي، فمنذ كنت صغيرة لا أستطيع النوم حتى أقرأ في مختلف الروايات العربية والعالمية ودواوين الشعر المختلفة، ثم جاء تخصصي الذي أفادني في الاطلاع على مناهج النقد العربي والغربي والمذاهب الأدبية المختلفة، فنمت عندي ملكة النقد وحاولت تطويرها وتهذيبها من خلال متابعتي كل ما هو نافع وجديد في الساحة الأدبية والنقدية، فما إن أقرأ شيئا حتى تشتغل عندي حاسة التذوق التي تعتمد بالدرجة الأولى على الإحساس والتأثر الذي يتركه النص المقروء في نفسي.

وفي الحقيقة لا أجد نفسي تميل لمذهب معين في النقد؛ لأن المذاهب ربُّما تكون أسستْ على مبادئ ثابتة ونظريات غير قابلة للتفاوت، بينما  الحياة في تغيير مستمر، والأدب بأبسط تعريف له: هو صياغة فنية لتجربة بشرية وهو نقد للحياة، فظهور المذهب الرومانسي على سبيل المثال جاء كردّ فعل ضد المذهب الكلاسيكي، وهذا لا يعني بالضرورة أن الأخير كان قاصرا، فلو كان كذلك لما سيطرت الكلاسيكية على الأدب لقرون.

كما أن مذهبي في النقد قائم على تأثير النص المقروء والانطباع  الذي يتركه في نفسي، وهو مذهب مبني على الاختيار الصحيح والاستسلام إلى ذوقي الشخصي، بغض النظر عن مكانة الأديب ومنزلته، ولذلك كتبت عن نصوص شعرية وسردية كثيرة لأدباء مغمورين وشعراء غير معروفين، حتى أنا شخصيا لا أعرفهم، ما أعرفه فقط النص وتأثيره في نفسي، النص هو المادة الأساسية التي يحولها فعل القراءة إلى شكل جديد عن طريق تفاعل بنيات النص مع آفاق التلقي، ولذلك أحاول دائما في نقدي أن أعالج النصوص المختارة بأدوات علمية تجعلها تصل للقراء في صورة واضحة، بعيدة عن تعقيدات المناهج النقدية المختلفة وإن كانت تلك الأدوات لا تبتعد عن هذه المناهج كثيرا، فهي تأخذ من هذا وذاك، إذ أرى أن الأخذ بأسباب التطور التي توجد في آداب الغرب والتنازل عن بعض السمات والملامح التي تعوق أدبنا العربي وتقف في طريق نهوضه والأخذ بأساليب العقل، لا تُعد مثلبة يعاب النقاد بها.

كيف تنظرين للنقد العربي القديم؟

يصف بعض المثقفين والأدباء عصرنا الحديث بأنه عصر النقد، وما ذاك إلا لبروز النقد واتساع مجالاته ودخوله في علوم كثيرة ونشاطات متعددة، طبعا بمفهومه التقليدي الذي يعني التقويم والحكم وإظهار العلل وإبراز المحاسن والتطلع إلى الجيد واستشراف التطور على وفق معايير وأسس معينة ورؤى واضحة ومتعددة، وعلى الرغم من أن النقد القديم لم يطور منهجا اجتماعيا أو نفسيا في تحليل النص ونقده، ولا حتى منهجا تاريخيا، إلا أن هذا لا يعني أننا لا نجد لمحات سريعة وومضات نافذة ذات طبيعة اجتماعية أو سيكولوجية أو تاريخية، وقد استطاع نقدنا العربي القديم أن يبلور منهجا لغويا، في تحليل النصوص الشعرية والنثرية على حد سواء، وهو منهج يفحص النص على المستوى الصوتي والمستوى النظمي (التركيبي) والمستوى التعبيري (البلاغي)، مع إنه لم يحصل في القديم أن دُمِجت هذه المستويات في منهج واحد، فالنقد العربي القديم يمكن أن يكون رافدا لتأصيل منهج نقدي حداثي معاصر، إلا أنه وللأسف بقي محصورا في حدود الجملة، ونحن بحاجة إلى أن ننظر إلى النص بوصفه عملا مترابطا فنمضي في التحليل أبعد من الجملة والفقرة إلى النص، وبهذا نربط البحث النحوي حيث يكون النظم بالبحث البلاغي حيث يكون المجاز.

هناك خلاف حول "غاية الأدب ووظيفته"، فكيف تنظرين إلى طوفان الكتابة حاليا؟

هناك فوضى عارمة في الأدب، فالأدب واحد والغايات متنوعة، إلا أنني أرى أن الأدب الحقيقي هو الذي يحمل رسالة معينة قد تكون أخلاقية وقد تكون علمية تربوية، وقد تكون سياسية أو اجتماعية، ويقول هايدغر: إن الأدب هو تفعيل الحقيقة وإن الشعر هو تأسيس الوجود على الكلام، فهناك جماهير كثيرة من القراء أصبحت لا تقنع بالمتعة الجمالية للأدب أو بعملية الترويح والتنفيس عن مكبوتات النفس، بل الأديب اليوم مطالب بعمل إيجابي وإيثار وتضحية بالذات في سبيل الآخرين الغارقين في محن الحياة، فالأدب في عصرنا الراهن لم يعد نوعا من الترف، بل أصبح ضرورة في الحياة وأنه يشبع في الحياة حاجات ملحة لا تقل خطورة عن غيرها من الحاجات المادية وغيرالمادية، وكل أدب عدا ذلك أراه مجرد ثرثرة، والنصوص الجيدة هي من تستهوي القراء وتثير لذة القراءة بغض النظر عن كثرة المنتوجات الأدبية ورقية كانت أم إلكترونية.

وماذا عن الالتزام في الأدب والاحتكام للقيم الجمالية بعيدا عن القيمة الأخلاقية؟

قضية الالتزام في الأدب قضية قديمة جديدة، ثار حولها خلاف وتباينت فيها الآراء، وأصبحت أكثر رسوخا على يد كتاب واقعية القرن التاسع عشر من قبيل، تولستوي ودوستويفكسي مرورا بالواقعيات النقدية والاشتراكية مع بلزاك وستاندال ومكسيم غوركي، وليس انتهاء بالوجودية مع كامو وسارتر وما تلاها من تيارات البنيوية والحداثة، عربيا ظهر مرتبطا ومترافقا مع ظهور حركات التحرر الوطني في مواجهة الاحتلال الأجنبي، فالعمل الأدبي مهما كان جنسه يجب أن يكون لغاية وهدف وبغياب الغاية يفقد مبرره، لكن شرط عدم انزلاق النص إلى مرتبة المباشرة أو السطحية، كما أن الأديب الملتزم  يجب عليه أن لا يكون بوقا أو أداة بيد السياسي أو الحاكم حتى يحقق حريته بوصفها شرطا أساسيا للإبداع، أما نظريات الفن للفن وحرية الآداب المطلقة، فهي صيحات نخبوية سرعان ما تزول.

كيف تفسرين تعدد القراءات لرواية واحدة رغم وحدة بنيتها؟

من الطبيعي أن النص الواحد يمكن أن يقرأ قراءات متعددة بالنظر إلى الخصوصيات النفسية والاجتماعية والمعرفية التي تميز قارئ عن قارئ آخر، ولذلك تتباين مستويات القراءة وتتعدد من حيث العمق تبعا لخبرة القراء وأساليبهم حتى قيل: إن هناك عددا من القراءات يساوي عدد القراء، ثم إن القراءة مستويات كما أن القراء أنفسهم مستويات، وهناك نصوص تمتلك القدرة على توجيه القارىء إلى أمر ما أكثر من بقية الأمور الآخرى.

لو نأخذ في سبيل المثال رواية الطيب صالح، موسم الهجرة إلى الشمال، نجدها تفرض على القارئ الاشتغال على شخصية مصطفى سعيد، أو بالإشكاليات الحضارية الكامنة فيها، أي أن النص يقرر إلى حد كبير استجابة القارئ، وأهم ما تمتاز به القراءة الأدبية أنها تحاول البحث في المسافة الفاصلة بين الدال والمدلول وتعمل على فك أسرارالتعدد الدلالي الذي يميز النص الأدبي، ففعل القراءة هو ارتحال وهجرة وعبور بين الدلالات بشكل دائم، وهذا كاف وحده بجعلها تعدد وتتجدد باستمرار.، وحتى القارئ الواحد سيقرأ النص قراءات مختلفة بالنظر إلى أحواله المختلفة، فهو في القراءة الأولى ليس هو نفسه في القراءة الثانية، تبعا للمقولة الشائعة: أنا الآن لست أنا بعد لحظات.

كيف نجحت في ترويض النصوص المراوغة بما لا يجافي شروط الفن؟

في ظل المتغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي رافقت ما بعد الحداثة في الأدب والنقد، كان من الطبيعي نقلة معرفية من النقد إلى النقض ومن الحامل اللغوي إلى الحامل المعرفي، فنراه تجاوز الأطر الشكلية واللغوية التي حُوصر فيها النص، فلم يعد النص مجرد بناء لغوي قار، وكذلك بالمثل لم يعد النقد المعتمد على حكم القيمة- بالضرورة- ذا أهمية تذكر، ومن ثم كانت الحاجة ماسة إلى مفهوم أعم وأشمل لا يقتصر على ما اشتغل عليه النقد الأدبي ومن ثم تحول إلى نقد معرفي، فحاولت تقديم شذرات نقدية ومعرفية تُسائل المفاهيم والظاهرة الأدبية وتتطرق لكافة فنون الكلام، فقدمت دراسات عن الشعر والرواية والسيرة الأدبية والرحلة وغيرها من فنون تتجاور وتتداخل فيما بينها، محاولة إعمال أدواتي المنهجية بوعي معرفي، ولذلك لم أحاول الركون إلى منهج نقدي واحد يقيدني ويؤطر نقدي، بل عمدت إلى محاورة المناهج النقدية والنصوص الإبداعية، فهاجسي أصبح هو الوعي المعرفي بتشعّبات علاقة النص بالواقع والذي شكل فيما بعد رؤيتي النقدية.

ديوان الثقافة العمانيّة في المسرح والقصة والشعر والرواية عامر بالأسماء النِّسويّة، ما أهم الأسماء التي لفتت انتباهكِ؟

بصراحة، أفرح لكل نشاط نسوي يقدم في المنطقة العربية، وقد شهدت منطقة الخليج في الفترة الأخيرة ظهور عدد من النسوة المبدعات، من قبيل د.عزيزة الطائي ود.جوخة الحارثية متأثرات بالانفتاح المعرفي والثقافي، مما أسهم في تصدرهن للواجهة الأدبية، وأتوقع لبعضهن الوصول إلى العالمية.

فالمبدعة الخليجية الذكية على وفق ما أرى هي التي تستطيع تمييز ما يمكن طرحه وما لا يمكن، وهي التي تتمكن من استعمال حروفها الإبداعية من أجل الوصول للمضمون من دون الغوص في تفاصيله، ولاسيما إذا علمنا أن تفاصيل حياة المرأة الخليجية وقضاياها من الصعوبة بمكان سردها أو البوح بها فحجم المساحة المتاحة للتعبير عن الذات ضيق جدا في المنطقة العربية، إذ لا يمكن فصل كتابة المرأة الخليجية عن محيطها الإقليمي العربي ولاهويتها العربية الإسلامية في مكوناتها الثقافية الأصلية.

تعليق عبر الفيس بوك