ماجد المرهون
في زيارتي الأولى لولاية بديّة لم يكن في تصوري شيء سوى تلك التلال الكبيرة من الرمالِ الحمراء والتي طالما ظهرت في مقاطع الفيديو المتداولة لصعود السيارات عليها، فيما يشبه محاولات سبقٍ بُغية ملامسة النشوة المصاحبة للوصول إلى القمة ولو مؤقتًا، وكان المشهد للوهلة الأولى يؤكد الصورة الذهنية المرسومة في مُخيلتي، ومع الطقس البارد جدًا في هذا الوقت من العام والرياح تهب من مكان إلى آخر بمزاجية وحريةٍ مُطلقة وتنقل التراب السطحي للكثبان التي تصلبت وباتت تشبه الجبال استأثرت قرية المنترب باسمها لتصادق على طبيعة المكان، بيد أنَّ الكثبان تحوي بين حناياها الناس وبيوتهم ومزارعهم في تعايش طبيعي متأقلم مع ظروف البيئة مع لمسات حديثة لا تخفى على الزائر، وقد جسدت قرية الحوية ذلك الاحتواء وما زالت خير شاهدٍ عليه.
كان الوصول ليلًا؛ ومع اختلاط مشاعر الترحيب وحفاوته وشرودٍ ذهنيٍ لحظي لغلبة الجوع الذي انكفأ سريعًا مقابل كرم الضيافة تبقى الإرهاق الذي بسط على ظلاله ونال من جسدي مناله فلم يتسنى لي استقراء ماوراء سور الاستراحة، ثم محاولةٌ للنوم مع وسواس ما يعرف بتغيير المكان وهدير محركات السيارات وهو يتناهى إلى مسامعي من علٍ كأنَّ بيني وبينه علاقة كراهية شخصية مخترقًا الآفاق والخيمة والوسادة ودرع الصوف السميك قائلًا لقد حان وقت تصفية الحساب، عمومًا سامحته مُجبرًا وتأقلمت سريعًا مع هزيمتي لأنعم بشيء من السلام حتى إذا صاح نفير الديك مُعلنًا استقلال المزرعة المجاورة أسقط في يدي فقد حان موعد آذان الفجر وأيقنت أن النوم في هذه الليلة محاولة عبثية. وسوف أتجاوز هنا الوضوء بالماء المثلج وتجهم بعض الوجوه التي ربما عانت ماعانيته أو غير ذلك فلكلٍ معاناته إلى ما بعد الصلاة وتناول وجبة الإفطار وعودة إنشراح أسارير الوجوه إلى طبيعتها المعهودة مع ظهور قرن الشمس وانتشار الضوء والدفء لتتجلى لنا عظمة المشهد المُحيط بنا وجماله على رؤوس الكثبان المشرقة كالذهب وقد سبقنا لرؤيته أهالي قرية الشارق فهم أول من يستقبل الشروق، وبما أنها قرية من صميم بدية فقد أضفت ذلك على تسمية الولاية كلها كبدايةً لظهور الموقع المرتفع من بعيد.
ستُبدد النخيل الشامخة فكرة الصحراء والرمال عند الواصل إلى قرية الواصل لما يُرى من عددٍ كبيرٍ للسكان ونمط حياة سريعٍ ومزدحمٍ نسبيًا كما يفعل الفلج الذي يزاحم أفلاج عدةِ قرى وصولًا إلى قرية الجاحس.
مع كوكبةٍ مميزةٍ من الأصحاب تقاطرت من كل بقاع عماننا الحبيبة في وقتٍ قصيرٍ، كما تقاطرت ذرات الرمال المتحركة لتشكل تلك الكثبان الهائلة في وقت طويل ويشكل ما بينها الإنسان الواحات الغناء تشكلت منَّا مجموعات متحركة للاستمتاع بمناظر الولاية والاطلاع على مآثر أهلها وهي لا تحصى وتمتد عميقًا وبعيدًا حتى إذا غب على أحدنا المكان وبعُد فلن يفلت من أسر قرية الغبِّي حيث لايزال أسيرًا صامتًا في حرم الجمال.
تتهادى المجموعة الموقرة مع نسمات بدية المنعشة بإخبات إلى الساحة المقابلة لمَعلمٍ يعرف بغرفة الشيخ حمدان بن سالم الحجري رحمه الله، وانطلقنا كالريح الرخاء سيرًا في طريق ضيق تلفه البيوت القديمة على كلا جانبيه في صياغةٍ معماريةٍ اتخذت فيما بينها نوعًا من التشابه وقدرًا من الاختلاف، حتى إذا تراءت لي قُبة متحف بدية السامقة بساعته بين الحجر المرصود كنخلة المبسلي الباسقة بطلعها المنضود أعلنت لوحته الإرشادية الوصول للموقع الموعود بدا لي متواضعًا ولم اعتمد على ذلك الانطباع وحتى من خلال بيع الخضار في عدة صناديق تتسلق عتبات مدخله الثلاث لتباغتني قبل الدخول رائحةٌ غير معتادة ويبدو أن للتاريخ رائحة خاصة بين حزنٍ وفرح وأرواح تسكن الصرح ولا تغادره مهما حاولت جدرانه التضوع من عبق البخور واللبان، فرحت سارحًا بين المقتنيات وهائمًا وسط معروضات التحف التي يعج بها المتحف وتزخر بها الصالات والمحاريب والأروقة ويزاحم بعضها بعضًا في لغة جسدٍ ولسانٍ صامتين منذ قرونٍ خلت ولكنهما يحكيان الكثير والكثير.
ربما تزين بذلك الخنجر جد رابع أو خامس لأحدنا، وتلك البنادق قد أطلقت ذخيرتها في يومٍ من الأيام لتحرير أرضنا الطاهرة من الغزاة، وقد يكون ذلك الصحن المرصع بالأحجار الكريمة مُعلقًا على جدار قصر أحد الخلفاء العباسيين وشهد على أبي نواس وهو يلقي قصائده وطرائفه، وتلك العملة المعدنية الصغيرة أخفتها الأم في المهد الجلدي لرضيعها ليوم تطهيره ثم نستها، ويبدو لي أن تلك العدة قد استخدمها طبيب متمرس لعلاج مزراعٍ بسيط لم تنفع معه التمائم وخلفي قروش فضية تحكي اقتصادًا مزدهرًا قام على التبادل التجاري بين آسيا وإفريقيا لتجارة التمور والبهارات والبُن والمشغولات اليدوية من الأخشاب والفخار والنحاس والخزف الصيني المتواجد على روازن المتحف وتلك الأقفال المصنوعة محليًا قبل مئات السنين والتي تتشابه في مبدأها مع نظام الأقفال المشتركة الحديثة بين عدة أشخاص ولا تفتح بتخلف أحدهم عن الحضور وما أعجب قفل سلمان.
يُخيل لي أنَّ مقتنيات ذلك المتحف الفريد إذا عرضت في متحفٍ بمساحة تعادل عشرة أضعافه فإنِّها ستكفيه وتوفيه وربما ستزيد، ومازادني من ألم المُغادرة ألمًا سوى الالتزام بالوقت المحدد سلفًا.
إن ولاية بدية تجسد فنًا من فنون الطبيعة والإنسان، ما بين تشكيلات بارزة وغائرة تخفي بين منحياتها المقنطرة جهدًا وإخلاصًا عظيمين يرويان بالتناوب ومعًا قصصًا لا نهاية لها.