مدرين المكتومية
رغم المُتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي نعيشها يومًا تلو الآخر، وما تفرضه علينا من عادات وأسلوب معيشة ينبغي أن تتسم بالترشيد والتخطيط الجيد للنفقات، إلّا أن فئات عدة في المجتمع ما تزال تمارس الإسراف والتبذير دون مُبرر منطقي، وحينما تحاول البحث عن إجابات مُقنعة تكشف عن الأسباب الكامنة وراء مثل هذه التصرفات غير المسؤولة، لا تجد سوى رغبة غير سوية في مجاراة حياة البذخ والإنفاق دون جدوى لإشباع رغبات النفس وممارسة الكِبر الاجتماعي!
لم تعد "ثقافة الاستهلاك" التي ظل يحذر منها الاقتصاديون، بعدما شاعت في مراحل بعينها قبل عقود سابقة، هي الأزمة الحقيقية التي نتحدث عنها، ولم يعد الاقتصاد السلوكي قاصرًا على محاولة قراءة طريقة معيشة النَّاس أو مساراتهم في الإنفاق؛ بل صار الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك، فالأمر تحوّل إلى ما يُشبه السباق المحموم نحو البذخ، حتى لو كان بالقروض والاستدانة، وحتى لو تطلب الأمر بيع أملاكٍ وعقارات؛ إذ يظل الهدف والغاية لدى هؤلاء المُسرفين إرضاء ذواتهم المتأثرة بشدة ببعض الثقافات الدخيلة على مجتمعاتنا، بما يُنافي قيمنا الأصيلة وتوجيهات ديننا الحنيف، الذي ينهى عن الإسراف والتبذير حتى لو كان المرء مُقتدرًا.
النظريات الاقتصادية والاجتماعية تُحذر من هكذا أساليب عيش، لأنَّ زيادة الإنفاق غير المسؤول، خاصة في الأوقات الصعبة، يتسبب في أزمات اقتصادية، منها زيادة الأسعار ومن ثم ارتفاع مؤشرات التضخم، وهو ما ينتج عنه حرمان فئات أقل حظًا في المجتمع من شراء بعض مستلزماتها بسبب غلاء الأسعار. وعندما يزيد التضخم تلجأ البنوك المركزية إلى رفع أسعار الفائدة، وهو إجراء يُؤثر بالسلب على الأنشطة الاقتصادية، ويُسبب حالة من الركود الاقتصادي، نتيجة عزوف المستثمرين عن الاقتراض من أجل إقامة المشاريع بسبب ارتفاع الفائدة، كما لا تتمكن فئات أخرى في المجتمع من الحصول على قروض لشراء منزل أو سيارة، بسبب الفائدة المُرتفعة، بينما كان بإمكانهم القيام بذلك في حالات الفائدة المنخفضة.
لقد ألهت المظاهر فئات عديدة في المجتمع، فتجد الإسراف والتبذير حاضرًا على موائد الأعراس، وولائم العشاء للضيوف، وكذلك في الرحلات البرية، حتى في استقبالات المسؤولين أو إقامة المناسبات والمؤتمرات، لا يخلو الأمر من إسراف في النفقات، ففي بعض الفعاليات وعند مراجعة الميزانية، قد يكتشف المُراجع أنَّه يمكن تقليص النفقات إلى النصف، إذا ما تخلّى الناس عن مظاهر البذخ.
من المؤسف أن نجد كذلك أجيالًا نشأت على الإسراف والإنفاق بكثرة على أمور لن تحقق الفائدة المرجوة، بينما يستطيع العيش بأقل القليل، فما من شاب أو فتاة إلّا ويُريد شراء ملابس من علامات دولية شهيرة، تقليدًا للفنان الفلاني أو النجمة الفلانية، أو اقتداءً بـ"الفاشونيستا" التي تظهر في فيديوهاتها مرتدية ملابس وإكسسوارات بآلاف الدولارات!!
الحقيقة أن كل هذه المظاهر الخادعة والكاذبة تتسبب في مزيد من المشاكل والإخفاقات على المستوى الاجتماعي والاقتصادي؛ إذ لم يكن التباهي والتفاخر يومًا سببًا في منفعة أو فائدة لصاحبه؛ بل ربما يقوده نحو المزيد من الخسائر.
بعض خبراء علم النفس يعزون مثل هذه التصرفات إلى عقدة نقص تنتاب من يمارسون البذخ دون مُبرر أو منطق، فربما يكون هذا الشخص قد عانى في طفولته أو شبابه من حرمان، ويرغب في تفريغ هذه الشحنات السلبية التي تحتل عقله في اللاوعي. كما إن هناك تفسيرات تربط تصرفات التبذير والإنفاق المبالغ فيه، برغبة الفرد في الاستعلاء وممارسة فوقية مقيتة.
إننا أمام تحديات اقتصادية واجتماعية صعبة، تستدعي من الجميع اليقظة وأخذ الحيطة، واللجوء إلى الإنفاق المستدام الذي يعود على صاحبه بالنفع لسنوات مستقبلية، وأن نبتعد تمامًا عن مظاهر البذخ، سواء كانت رسمية أو غير رسمية، وأن يسعى كل فرد كي يعيش وفق ما تتيح له ظروفه المالية، وإن كان ذا سعة في المال والرزق فعليه أن يقتصد حتى لا يتسبب في مشكلات اقتصادية.
إنّني أُوجه النصح الصادق لكل من يلجأ إلى التبذير والبذخ في الإنفاق، أن يُفكر مليًا في كل مرة يُخرج بطاقته البنكية أو أمواله لشراء سلعة ما، أو عندما يستضيف ضيوفًا أو يقيم فعالية أو عُرسًا، أن يتدبر خططه في الإنفاق، ولينظر في مسألة خفض النفقات أو شراء السلع ذات القيمة الأقل وبنفس الجودة، عندئذ سيُدرك حتمًا أنه قادر على ترشيد الإنفاق وتفادي تكبد الخسائر المالية الكبيرة.