من "المجزرة".. إلى المقبرة!

 

فاطمة اليمانية

كيف يعزّي المرء نفسه إذا كانت روحه هي التي فُقِدَت؟!

 

***

استقرّ في هاتفها إعلان إحدى عيادات التجميل الجراحية الحديثة في البلد، واخترق قلبها سؤال الإعلان الذي شعرت بأنّه موّجه إليها:

  • هل سئمت من منظر بطنك المتدلي؟

فأرسلت لهم:

  • نعم سئمت!

وبعد تفكير عميق؛ وجدت نفسها أمام باب عيادة التجميل التي تقوم بالعديد من الجراحات التجميلية، كشفط الدهون، وشدّ البطن، وشدّ الوجه، وتجميل الأنف، ورفع الحاجب، عدا عن الحقن بالفيلر والبوتكس، وكل ما تمّ استحداثه؛ لتحسين مظهر الإنسان المعاصر الذي أصبح غير راضٍ عن شكله، ولا واقعه!

كان المكان فخمًا جدًّا، ويشعر الداخل إليه كأنّه يلج إلى أحد الفنادق الشهيرة، بما فيه من أثاث راق، وروائح عطرية منعشة، وصوت موسيقى خافت، يرخي الأعصاب التي ربما تكون مشدودة من فكرة أنْ يخضع المرء نفسه لمشرط الجراح؛ ليصحو على ملامح مُختلفة، أو قد لا يصحو.

لكن ابتسامة موظفة الاستقبال الآسيوية الساحرة، وصوتها الهادي؛ جعلها تخطو خطوات للأمام، فهي تخجل أنْ تُغْضِبَ الموظفة إذا غادَرت، أو أغواها الشيطان بالفرار!

وهنا لابُد أنْ نقف وقفة شفقة لحيرة هذا الشيطان الذي أصبح عدّوها لمجرد أنْ فكرت بالنفاد بجلدها خارج مركز التجميل! فهو لا يُريدها أنْ تجدّد مظهرها؛ ليتزوج زوجها عليها! أو يخونها! وتتشتت عائلتها!

بينما كان عدّوها ليلة البارحة عندما شعرت بأنّها تستطيع إكمال السنوات الباقية من عمرها على هيئتها المعروفة، وبأنّها لن تنجرف لوساوس الشيطان الذي يُغريها للذهاب؛ لتغيير خلقة الله!

نعم هي من النوع الذي لا يفرق كثيرًا بين الغواية، واستيقاظ الضمير!

لذلك تابعت مسيرها تجاه غرفة جرّاح التجميل، وقبل أنْ تدخل مدحت الموظفة، وقالت لها:

  • جينات الفلبين رائعة!

وأخبرتها بأنّها مُعجبة بنبرتها الهادئة الرقيقة! وهي لا تعرف بأنّها تدربت كثيرًا على هذه النبرة، كما تدربت هي قديمًا على رفع صوتها بالصراخ، وهي تُنْطِق أطفال الصف الأول حرفيّ السين، والثاء؛ ليردد معها مروان مُتحمّسًا:

  • أثد... أثنان! قاصدًا: أسد، وأسنان! بينما نطق الأرقام، واحد إسنان!

فتخيلت بأنّها أمسكته من ياقته، وعلّقته من رقبته على باب الفصل! لكنّها لم تفعل!

كما تخيّلت أنّها التقطت حجرًا، وقذفت به شيطانها المتردد في الغواية! أو الذي لا يجيد الغواية!

لتنتهي الخيالات، وهي تجلس مقابل طبيب وسيم جدًا، ببشرة ناعمة نضرة، وبالقرب منه ممرضة أشدّ نضارةً وجمالًا!

كانا متناغمين، وشعرت بأنّها تبالغ في الخوف بعد أنْ قدمت لها الممرضة قطعة حلوى الليمون! ولو قدّم لها في مكان آخر؛ لقالت بأنّها حلوى رخيصة!

لكن الغواية الرخيصة تصبح ذات قيمة ما دام تمّ تغليفها، وتقديمها بطريقة أنيقة!

ولا تذكر ماذا حلّ بقطعة الحلوى وهي تمسك بها، إن كانت أكلتها، أو ألقت بها في حقيبتها! لكنّها تذكر جيّدًا نظرات الطبيب لها، وهو يتفحّص وجهها، وقال لها متأثّرًا بأنّها تعاني من عيوب خلقية كثيرة، ثمّ غيّر نبرته كمن يحمل بشارة سارّة، وقال:

  • جميع هذه العيوب الخلقية؛ بالإمكان تفاديها! برتوش بسيطة جدا، وغير مكلفة!

والتقط صورة لها، ثم أدرجها في أحد برامج التجميل، وشرح لها التعديلات التي سيقوم بها على وجهها، وعلى أنفها، وعلى ذقنها، وأخرج لها صورة جميلة لما بعد عمليات التجميل، وأخبرها بأنّها ستمر بأيام تشعر فيها بوخز بسيط بسبب الجراحة، لكن المسكّنات كفيلة بإخفاء الألم، والأيام ستمر سريعًا؛ لينبهر الجميع بملامحها الجديدة الفاتنة!

واستجمعت قواها الذهنية؛ لتسأله سؤالا تعتقد أنّه على قدر عالٍ من الذكاء والحكمة، وقالت له:

  • ذلك القطع الذي ظهر في عملية شدّ الوجه التي عرضتها منذ قليل، هل تقتطعون اللحم؟! لحم الوجه؟!

فضحك الدكتور، وشاركته الممرضة الحسناء الضحك واضعةً يدها على فهما بطريقة رقيقة:

  • قطع بسيط جدًّا! هل هذا ما أثار حفيظتك؟!

وتحدث لمدة خمس دقائق إضافية عن عدد العمليات الناجحة التي قام بها في بلده. وغادرت وهو يرمقها بنظرات حالمة! ثم ضحكا عليها بعد إغلاق الباب خاصّة على سؤالها عن عملية شدّ الوجه! فما هي مقارنة مع قطع الأنف! أو سرقة الأعضاء! أو إفراغ شوال الشحم من المعدة!

وبعد وصولها إلى المنزل، حاولت قدر المستطاع البقاء بعيدًا عن زوجها، وأبنائها! فهي مقبلة على خطوة مصيرية!

والتحدي الأصعب زوجها! كيف ستقنعه بأنّها ترغب في إجراء عملية تجميل؟!

فقدّمت له كوب عصير؛ وأخذت تسأله عن أحواله، لكنّ ملامح وجهه المكفهرّة لا تطمئن، وأخبرها بأنَّ زميله توفي في عملية قصّ المعدة! وبأنّه أجراها في الخارج! وينتظرون وصول التابوت غدًا!

وبعد مُواساته، أبدت وجهة نظرها في إجراء عمليات التجميل، والتكميم وقص المعدة خارج البلد! ففي البلد توجد العديد من المراكز المتخصصة، وبالإمكان القيام بها!

فقال ساخرًا:

  • الفرق هو أنْ تكون إجراءات الدفن أسرع!

وذكّرها بالعديد من ضحايا العمليات الفاشلة؛ فهي عمليات خطيرة جدًا، والمكان لا يهمّ أساسا!

وافقته على رأيه، وبعد يومين وصلتها رسالة من عيادة التجميل تذكر فيها تفاصيل موعد الجراحة، والأسعار، ونسبة الخصم، والأوراق المطلوبة قبل إجراء العملية.

فأخبرت زوجها عن رغبتها بإجراء جراحات تجميلية، وستبدأ بعملية شفط الدهون، وشدّ البطن، ثم تنتقل للوجه والأنف!

ودخلا في مشادة كلامية، وعراك، وصراخ، ودموع، وغلق أبواب! وانتهت المعركة بمغادرته المنزل؛ لتمطره بوابل اتّهامات لقّنها لها دكتور التجميل، فمعظم الرجال يمنعون زوجاتهم من التجميل، بينما يلتفتون للمرأة الجميلة! إلى آخره من الجمل التي تهاجم الرجال، وترفع من قيمة المرأة الضحية!

وبعد خمسين رسالة؛ وافق أخيرًا على السماح لها بإجراء الجراحة التجميلية، وأصرّ إلى الذهاب معها إلى مركز التجميل، وسماع كلام الدكتور بنفسه، وخرج مُخدّرًا من كلامه؛ حيث شرح له طريقة العملية، فهي مجرّد جرح صغير بمقدار نصف سنتيمتر؛ يدخل من خلاله أنبوب جهاز ليزر بين الجلد والعضلات، ويستهدف الخلايا الدهنية، دون المساس بالأعضاء الداخلية، أو التأثير على الأوعية الدموية، والأعصاب المحيطة؛ فيفتت الدهون، ويسهل شفطها خارج الجسم.

شعر الزوج بالاطمئنان، وسمح لزوجته بالقيام بالعملية، واستكمل بقية الإجراءات؛ وأكمل الأوراق المطلوبة.

وبعد أسبوع، وقبل تخديرها في غرفة العمليات، مازحها الطبيب مؤكّدًا لها أنّ زوجها سيغمى عليه حال خروجها من غرفة العمليات، وهي تشبه الحوريات!

وربما كان آخر شيء أبصرته عيون طبيب التخدير، لكنّ روحها لا شكّ حلّقت فوق جثّتها المُمددة؛ حيث انشغل الطبيب بتصوير العملية لمتابعيه أثناء قيامه بالعملية؛ فثقب الشريان دون أنْ ينتبه، وفعلًا كما وعدها، أغمي على زوجها، وهو يستلمها جثّة هامدة!