الغرب يقضم مصالحه في العالم

 

علي بن مسعود المعشني

ali95312606@gmail.com

قالت العرب، المستحيلات ثلاثة: الغول، والعنقاء، والخل الوفي، وأضاف عليها بعض المسلوبين من عرب زماننا رابعا وهو أفول الغرب أو سقوطه.

وحين قال السيناتور الأمريكي بول فندلي في مقدمة كتابه "من يجرؤ على الكلام": "جميع الدول تمر بمراحل البدائية ثم التطور فالانحلال، إلا بلدي أمريكا، فقد مرت من مرحلة البدائية إلى مرحلة الانحلال"، استنكر الكثير حول العالم هذه المقولة لأنهم ببساطة لا يدركون معنى الانحلال وبذوره وأشكاله، ذلك الانحلال الذي يتسلل إلى مفاصل الدولة مبكرا فينمو ويتغول ليقضي عليها قضاءً تامًا.

يكفي أمريكا تحللًا أنها دولة قامت بمؤسساتها ومواردها لخدمة لوبيات المال والنفط والسلاح، ويكفيها تحللًا إنتاجها عنصريةً عابرة للأجيال تُهدد النسيج الاجتماعي والمنظومة المجتمعية برمتها، ويكفيها تحلل معاداتها لجغرافيات العالم قاطبة بقواها الناعمة والخشنة. وبما أن إعمار الدول وتحلُّلها وفناءها لا يُقاس بأعمار الأفراد، ولكن تأخذ منهم الكثير من السمات؛ كونها شخصية اعتبارية- كما يصفها القانون والعلوم الإنسانية- لهذا لا يفهم ولا يُدرك مضامين كلام السيناتور فندلي في كتابه إلا الراسخون في علوم ومعارف الحضارة والتاريخ ودول الأيام.

حين كتب المفكر جان ماري جوينو كتابه "نهاية الديمقراطية"، وحذر فيه من خطورة تداعيات سقوط جدار برلين، ثم انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي وانعكاس ذلك سلبًا على الغرب والذي سيتربع وحيدًا على حلبة الصراع، كان جوينو يُدرك أهمية الصراع في حياة الأمم من أجل البقاء وبناء القوة والارتقاء.

لهذا وقياسًا على استنتاج المفكر جوينو لمآل الغرب حين يصبح وحيدًا يصارع نفسه، فقد ارتكب الرئيس السوفييتي ميخائيل جورباتشوف خطأً جسيمًا تسبب في انهيار الاتحاد السوفييتي سريعًا وتفككه، حين وضع برنامجه المعروف بـ"البيريسترويكا" (وتعني بالروسية إعادة الهيكلة)، ذلك البرنامج الذي جعل من الاتحاد السوفييتي نموذجًا غربيًا مسخًا، دون استعداد ولا أدوات تحصن الدولة من الانهيار!

بينما حين نقل الرئيس فلاديمير بوتين بلاده روسيا، كوريث للاتحاد السوفييتي؛ لتصبح نموذجًا ليبراليًا غربيًا في ديمقراطيته واقتصاده، تعاظمت دولته لتصبح القطب المنافس للغرب اليوم، وذلك بفعل تهيئة الأرضية الصلبة لتحول الدولة من منظومة اشتراكية ونهج شيوعي إلى هويتها اليوم. وبهذا أعاد بوتين بلاده إلى حلبة الصراع من باب تعزيز القوة العسكرية، وانفتاح الاقتصاد والمشاركة الشعبية واحترام قيم الموروث الروسي.

أزمة أوكرانيا اليوم برهنت وبيّنت هشاشة الغرب وقوة روسيا؛ حيث لم تواجه دولة لوحدها المنظومة الغربية ممثلة في حلف الناتو والقوة الاقتصادية والنفوذ الدولي وتوظيف المنظمات الدولية كما تواجه روسيا اليوم، وفوق كل هذا نجح الروس في السيطرة على الأزمة وتنفيذ مخططهم الاستراتيجي في إدارتها خطوة خطوة، وكان نجاحهم الأكبر في شق الصف الغربي، وإظهار هشاشتهم الاقتصادية وعجزهم السياسي أمام العالم.

مشكلة الغرب في أزمة أوكرانيا أنه استخدم الأساليب التقليدية في حروبه لمواجهة قوة عظمى بحجم روسيا، وهنا أخطأ كثيرًا في تقدير قوة الخصم، وفي تقدير ردود أفعاله؛ حيث فشلوا في تسويق حربهم على أنها حرب مع بوتين وليست مع روسيا، بينما نجح الروس في تسويق الحرب للرأي العام الداخلي والعالمي على أنها ضد روسيا؛ بل وفي جزء كبير منها ضد الضمير الإنساني. فشل الغرب في إظهار روسيا للعالم كدولة شيطانية مارقة، فقد كشفوا سريعًا عن مروقهم وشيطنتهم وتبين ذلك للعالم أجمع والذي تعاطف وتحالف الكثير منه مع روسيا.

لم يتعظ الغرب من "جدار برلين" ولا من تفكك الاتحاد السوفييتي، ولم يفهم أهمية وسر الصراع، ولم يُقدِّر قوة روسيا اليوم، فأعاد إنتاج نفسه بغطرسة وكبرياء مزيف فكانت النتيجة كارثية عليه.

قبل اللقاء: من يقرأ التاريخ يقرأ المستقبل، ومن لا يقرأ التاريخ محكوم عليه إعادة إنتاج عثراته.

وبالشكر تدوم النعم.