دعوة إلى مزيد من الصلاحيات للمحافظين

 

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

 

فن الإدارة الناجحة وموهبة القيادة الرشيدة، والثقة بالنفس التي تعتمد على الاطلاع الواسع وإدراك واقع واحتياجات النَّاس من حولنا، من أهم مفاتيح الشخصية القيادية الحكيمة؛ فتلك هي المقومات الأساسية لتطوير المجتمعات المحلية والأرتقاء بالاوطان وكسب القلوب والعقول في أي وطن في هذا العالم الذي تتسابق فيه الشعوب لحجز مكان متقدم بين الأمم المتطورة التي يتمتع أفرادها بالرفاهية والرخاء الاقتصادي.

ومنذ توليه مقاليد الحكم في 11 يناير 2020، بادر حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المفدى- أعزه الله ونصره- إلى تطوير مختلف أجهزة الدولة لتواكب للمتغيرات الدولية التي تشهدها الساحة على مستوى الدول الأكثر تقدمًا؛ ولعل نهج اللامركزية في إدارة شؤون البلاد، والذي رسم له جلالته الإطار القانوني والمالي والإداري من خلال منظومة تشريعية متكاملة تمنح المحافظات، صلاحيات واسعة في الحكم المحلي الذي يعتمد بالدرجة الأولى على اتخاذ القرارات المتعلقة بالشراكة الواسعة بين أبناء هذه المحافظات، من خلال أعضاء المجالس البلدية المنتخبة، وكذلك الشيوخ وأعيان الولايات المختلفة في كل محافظة من جانب، وكبار المسؤولين من مختلف الأجهزة والمديريات المدنية وعلى رأس هذه المنظومة المحافظ، الذي هو في مقام رئيس الوحدة، لكنه في نفس الوقت يخضع لإشراف مباشر من معالي السيد وزير الداخلية، باعتبار أنَّ وزارة الداخلية تمثل همزة الوصل أو الجسر الرابط بين المحافظين ومجلس الوزراء، وخاصة الوزارات المنوط بها التخطيط الاقتصادي ووضع الموازنات المتعلقة بالمحافظات.

لا شك أن المركزية في صنع القرار من الظواهر المنتشرة في دولنا العربية؛ إذ إن معظم القرارات الاقتصادية والتنموية بشكل عام تصنع في العواصم الكبرى بعيدًا عن أصحاب العلاقة في المناطق البعيدة عن المواطنين أصحاب العلاقة، فتأتي المشاريع التنموية غير ملائمة لأبناء تلك المناطق، وذلك لعدم استشارتهم أو مشاركتهم في صنع القرار، على الرغم من الشعارات التي تنشر في وسائل الإعلام ومفادها أن الإنسان أين ما وجد فهو هدف التنمية ومقصدها النهائي.

صحيح أن الأوضاع في السلطنة كانت لها ميزة اختلفت بذلك عن غيرها من دول المنطقة؛ حيث كانت لظفار أو ما يعرف بالمقاطعة الجنوبية- على سبيل المثال- في بداية النهضة وضع خاص وخصوصية معينة؛ لكونها خرجت من حرب دامت لأكثر من عقد من الزمن وبالتحديد إلى منتصف السبعينيات من القرن العشرين؛ فقد كان (الوالي) ثم (المحافظ) لاحقًا عضوًا في مجلس الوزراء لأكثر من 50 سنة، لكي ينقل الاحتياجات الضرورية لأبناء هذه المنطقة التي تبعد عن مسقط أكثر من 1000 كيلومتر إلى الحكومة الرشيدة التي تعد العقل المدبر والتي تضع الخطط المالية والتنموية للسلطنة، كما إن محافظة ظفار بطقسها الاستثنائي وموقعها الاستراتيجي على ضفاف بحر العرب والمحيط الهندي جعل منها واجهة سياحية تُدِر على البلاد مئات الملايين من الريالات، وذلك من خلال موسم الخريف ومن خلال السياحة الشتوية التي تجذب أعدادًا كبيرة من السياح من الدول الأوروبية خاصة أوروبا الشرقية والدول الإسكندنافية، فهي تحتاج إلى مشاريع وخدمات أساسية للزوار على وجه الخصوص من شمال البلاد ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية.

لقد تابعنا خلال الأسابيع القليلة الماضية انتخابات المجلس البلدي التي فاز فيها 126 عضوًا في مختلف ولايات السلطنة والذي سوف يكون أعضاؤه بمثابة الذراع الأيمن للمحافظين في مجال صنع القرار والمشورة في ما يتم تنفيذه من مشاريع وخطط تنموية لتطوير المحافظات، وهذا الحدث يعد بداية طريق الألف ميل نحو تحقيق الغاية السامية لجلالة السلطان الممثلة في النهوض بالمجتمعات المحلية ودمجها للمشاركة في وضع البرامج التي تهم الولايات من خلال المخصصات المالية التي رصدت لكل محافظة وتقدر بـ20 مليون ريال عماني. ومن الأمور الجديرة بالاهتمام والمتابعة، الحديث المرسل في إحدى حلقات برنامج "مع الشباب" عبر تلفزيون سلطنة عمان؛ والذي جمع سعادة محمد الكندي محافظ شمال الباطنة بكوكبة من أبناء تلك المحافظة؛ إذ دار النقاش الذي لم تنقصه الصراحة والشفافيىة عن خطط واستراتيجية المحافظ على أرض الواقع في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ النهضة العمانية المتجددة.

وقد أجاد سعادة محمد الكندي في إجاباته على الأسئلة الموجهة له، كما إنه كشف عن خطة تنموية طموحة تستهدف مدينة صحار التاريخية، والمدن الأخرى التي تتبع محافظة شمال الباطنة ولكنه ينتظر اعتمادها من الجهات العليا حسب قول المحافظ نفسه، وهذا المحافظ الواعد المتحمس لخدمة الوطن والتفاني في إنجاز ما أوكل إليه من واجبات جدير بالتقدير والاحترام منِّا جميعا، فهذا النموذج الناجح يذكرنا بمحافظ الإسكندرية في جمهورية مصر العربية الشقيقة، المرحوم محمد المحجوب الذي ذاع صيته في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج باعتباره أفضل شخصية عربية في مجال الحكم المحلي والتنمية الاقتصادية؛ إذ حوَّل المحجوب محافظة الإسكندرية في العقد الأول من الألفية الجديدة إلى مدينة تضاهي المدن الأوروبية المتقدمة في النظافة والعمران وتنمية وتطوير المجتمع المحلي والاستغلال الأمثل للموارد المحلية للمحافظة.  

ولا شك أن الخطوات التي تم إنجازها في القضاء على المركزية الشديدة التي كانت سائدة في أروقة الحكومة ومؤسساتها التي تصنع القرار التنموي قد أصبحت اليوم من الماضي، ولكن لا يمكن أن تنطلق اللامركزية وتحقق أهدافها المرسومة لها إلا بتمكين المحافظين من وضع خططهم المستقبلية وتنفيذها دون موافقات من السلطات العليا وخضوعهم لحُرّاس بوابات معينة، قد يؤخِّرون الخطط أو يعطّلونها لأسباب تتعلق بالموارد والمخصصات المالية، فتلك هي المركزية التي لا نريدها على الإطلاق؛ فالمحافظ الذي هو بمثابة رئيس وحدة من خلال قانون المحافظات، فمن المستحسن أن تكون الأبواب مفتوحة أمامه للتواصل مباشرة مع أمانة مجلس الوزراء أو بدلًا من ذلك نقترح تشكيل مجلس لتنمية المحافظات؛ برئاسة معالي السيد وزير الداخلية الذي نعهده واحدًا من الشخصيات القيادية التي تتمتع بخبرات متراكمة في الإدارة والحكم المحلي على مستوى المنطقة العربية قاطبةً، وعضوية أصحاب المعالي وزراء المالية، والاقتصاد، والنقل والاتصالات وتقنية المعلومات، والإسكان والتخطيط العمراني، إضافة إلى عضوية المحافظين، وذلك لارتباط هذه الوزارات بخطط التنمية في المحافظات بشكل مباشر وأساسي. فقد كانت أسئلة الحضور في تلك الندوة التلفزيونية الرائعة تتمحور حول تطوير ميناء صحار وكذلك تطوير المطار في هذه المنطقة المهمة على الرغم من أنها ربما تكون خارج اختصاص المحافظ.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري