أم كلثوم الفارسي
لا يكادُ يمر بي يومٌ دون أن أقول لأحدهم "عيشها ببساطة"، نتجمع ببساطة ونتهادى ببساطة ونعيش مناسباتنا العامة والخاصة ببساطة، فعلًا، أصبحت أردد هذا الطلب كثيرًا حتى بدأت أشعر بأنَّ من حولي يفهمون مسائل الذوق والتطور إلا أنا؛ فالتعقيد مُنتشر جدًا هذه الأيام أكثر من الزكام!
التعقيد والتَّكلف أصبح أمرًا طبيعيًا حتى في أكثر المجتمعات بساطة وعفوية مثل المجتمعات البدوية لقد صدرنا لهم ترندات التكلف عبر الوايفاي حتى يشاركونا ماراثون التعقيدات والتكلف الخانق ففي كل مناسبة نجد مظاهر مستفزة لتجميل الصورة وتهميش الواقع!
تستمع رغمًا عن أنفك في تجمعات العائلة النسوية- خاصةً- دروسًا في "الماركات" وآخر الصيحات في الملابس وآخر تحديثات المنتجعات والفنادق، أضف إلى ذلك صيحات عمليات التجميل والرتوش التي نحتاجها كلما تقدمنا في العمر، حتى تشك مع كل هذه الأحاديث في حقيقة نفسك ومعنى الحياة التي تعيشها! صدقًا لا وجود لتبسيط الأناقة والذوق في المظهر، كل شيء له معايير حددها مسبقًا مشاهير السوشيال ميديا، ولا وجود للبساطة في الاحتفالات حتى على صعيد المدارس؛ فكل شيء يجب أن يكون كاملًا لتبدو الصورة أجمل ونحصد أكبر عدد من الإعجابات، ناهيك عن مناسبات فقدت معناها جذريًا كفرحة استقبال المولود الجديد أو التخرج، حتى مُناسباتنا الدينية لم تسلم من هذه الظاهرة؛ فمناسبة عودة الحجاج من الحج أصبحت مكلفة للغاية ويتنافس المتنافسون في عرض مظاهر الاستقبال للحاج؛ بل تجاوز التعقيد كل الحدود ووصل إلى طريقة تفكيرنا وحلنا لمشكلاتنا وتعاملنا مع أولادنا، حتى طعامنا أصبح معقدًا، طبقات وطبقات من المكونات حتى تتداخل كل النكهات في بعض، فلا تعرف ماذا أكلت!
نموذج الفتيات اللاتي ينشدن البساطة كما غنتها- الشحرورة صباح- في عيشها مع أبو الدراويش مكتفية بغداء من خبز وزيتون وعشاء من البطاطا، لم يعُد موجودًا، فقد حلَّ محله نموذج فتيات يعشقن التعقيد والتقليد، ولا بأس من السلف والدين حتى تلتقط صورة لها وهي تحتسي فنجان قهوتها في أحد المنتجعات الفارهة جدًا، فلا يليق بها سوى هكذا مستوى، ولو كان مُؤقتًا وفاتورته أكبر من كل ما في حسابها البنكي!
اتفقُ على أنَّ لكل جيل طريقته في الحياة والتعبير عن ذاته، لكن ما أتحدث عنه هو أنّنا "فقدنا الاتصال بالواقع بفقدنا بساطة الحياة"، كما يقول الأديب والروائي البرازيلي باولو كويلو، ما يجعل الموضوع خطيرا، وهذا التعقيد الذي خلقناه طواعية منَّا أصبح يمثل ثقلًا علينا وشيئًا فشيئًا بدأنا نفقد المعنى في حياتنا. هذا النمط من الحياة امتد ليشمل مناسباتنا الاجتماعية، فأصبحنا نعيشها "بكلافة" بالغة وأحيانًا نهرب من مناسبات عديدة لأنها تمثل عبئًا ماديًا ونفسيًا علينا. والأدهى والأمرّ، أننا فقدنا البساطة حتى في علاقتنا مع أنفسنا، فأصبحنا لا نستشعر جمال يومنا، إلّا من خلال إنجازات على مستوى مُعين، ولم نعد نمتن لكل هذه النعم التي تحتوينا من أول صباحنا إلى نهاية يومنا!
الحق يا أصدقاء، أنه من لا يستطيع صنع لحظاته السعيدة في أبسط مكان وبأقل الإمكانيات، سيصعب عليه صناعتها في أكثر الأماكن رفاهيةً وجمالًا.
إنَّ معنى الحياة الحقيقي يتجسدُ في بساطة السلوكيات مع عمق الفكرة والشعور، وإن البساطة رغم سهولتها إلّا أنّها صعبة التحقق للسطحيين الذين لا يرون من الحياة سوى القشور.
هنا تصبح المعادلة واضحة: التعمق والسعي للوصول إلى معنى الحياة يقودنا إلى البساطة، بينما التعقيد والتكلف يبعدنا كثيرًا عن معنى الحياة؛ فالمسألة إذن مسألة فكرية أكثر من كونها مادية، وأعتقد أن تفسير انتشار المظاهر والتكلف في حياتنا أصبح واضحًا.. أليس كذلك يا أصدقاء؟!