أنيسة الهوتية
أصبحت الوجوه مُملةً، والملامح تائهة كطفل صغير مُصمم على الهروب من واقعه إلى حلم يراه قريبًا بين عينيه، لا يفصله عنه سوى العبور عبر سياج الحدود بين وطنه الذي هلك، ووطن آخر ليس له به علاقة دم أو قرابة ولكنه يحاول الدخول إليه كلاجئ وحيد! وفي ذلك مشقة ولكنها أهون عليه مما هو فيه!
وشفاهه العطشى التي صامت فوق الثلاثين فرضًا نوافل كثيرة، ما زالت تنتظر الإفطار الذي لا يصل مع كل أذان مغرب! تلك الشفاه التي تجعّدت ونشفت وانشقت كما تنشق الأرض حين يقع عليها زلزال بمقياس 10 ريختر، وفقدت كل ما كان عليها من جمال!
وفي المقابل، يرى شفاهًا مُمتلئةً متوردة ناضجة كحبات العنب الحمراء التي تتدلى من عنقود.. إنها شهية، لكنه لجوعه وحاجته للطعام ولأنه لم يحلم بعد، فإنِّه لا يشتهيها لأنها شفاه؛ بل لأنها تبدو كالعنب أو كحبات النقانق الصغيرة المنتفخة التي ما زالت ساخنة بعد إخراجها من زيت القلي الحار، وفي كلا الحالتين تلك الشفاه تبدو شهيةً!
وبينما هو يتفقد الوجوه بعد عبوره الناجح للحدود لعله يجد من يشبهه، حتى يشعر بالألفة معه، ولكنه لم يجد في ذلك القطيع سوى وجوهًا بتلك الشفاه المذكورة والعيون المشدودة بحواجبها المرفوعة التي ذكرته بحواجب "الأرجوزات" في أيام قديمة! وكلما تعمق وتوغل في الوجوه وجدها تشبه الفضائيين الذين كان يشاهدهم في أفلام الرسوم المتحركة وحلقات الكرتون، ولكنهم تشكيلة فضائيين مصبوغين بصبغة بشرية!
وعندما رأوه أمامهم صرخوا مستغربين متعجبين كيف يكون هو بينهم وما زالت ملامح وجهه البشرية طبيعية، فصرخ أحدهم: لا..لا..لا، علينا إخراجه من هنا، فإنِّه لا يمت لنا بصلة أبدًا، نحن عائلة واحدة وهو ليس منِّا!
فصرخ الطفل خائفًا: ولكنني لم يبقَ لي أحدٌ، أنا يتيم من الواقع! وإنْ أخرجتموني من هنا سأموت جوعًا وعطشًا وخوفًا أو حتى قتلًا على أيدي الواقعيين المنطقيين! إنَّني أختلف عنهم، عن أولئك المحتلين الذين قتلوا أهلي ودمروا بلدي! وفكري، وتراثي، وتاريخي!
فردت عليه إحداهن: وأنت كذلك لا تشبهنا، وتختلف عنَّا، وهنا نحن لا نقبل المختلفين!
الطفل: حسنًا، من السهل أن أشبهكم، ولكن من الصعب أن أخرج إليهم هناك الآن بعد أن دخلت هنا!
وبدأت إجراءات تحويل وجهه الإنساني الجميل، إلى وجه "بلاستيكي" مشابه لهم حتى يستطيع العيش بينهم.. فأصبح وجهه مملًا مثلهم، بلا ملامح ولا ضحكات غائرة العينين تلمس القلب والروح!
ومات الطفل التائه، ثم وُلِدَ غيره من جديد في ملامح كل واحد منهم، أصبحوا يتراكضون بينهم خائفين مرتعبين يدّعون السعادة القصوى! وجيناتهم وذاكرة أجدادهم التي دخلت إلى أذهانهم الوراثية عبر كل ما هو معقول ولا معقول ما زالت تذكرهم بوجوه جميلة كانت "زماااااان"، وكيف أن تلك التجاعيد كانت تشعرهم بالأمان، وتبث لهم ذبذبات الطمأنينة والسعادة وراحة الاحتواء بين أحضانهم! والشعر واللحية البيضاء كانت جميلة كجمال الغيوم البيضاء في سماء صيفية زرقاء.. وكيف أن الشعور كان جميلًا بالنظر إلى وجوه كبار السن وملامحهم وسعادتهم وغضبهم، عكس الوجوه الآن والتي تبدو وكأنها وجوه دمى صنعت من البلاستيك!
أأأخخخ... ويا للأسف! فقد أصبحت كل الوجوه نسخًا ولصقًا، مُملة لأنها متشابهة! وأصبح مقياس ومعيار الجمال واحدًا يتحكم فيه أطباء التجميل والإعلام بأنواعه! ويا ليته كان كسابق عهده حين كان لكل ثقافة وبلد معيار.
محزنٌ أنَّ الشقراء الأجنبية أصبحت غير محبوبة في الغرب وبدأت تصبغ شعرها بنيًا، حتى تتقارب مع مقاييس الجمال المعروضة حاليًا في الأسواق! والسمراء العربية المميزة بلونها، أتلفت كليتيها وكبدها من كثرة بلعها لحبوب التبييض!