الإطار العالمي الجديد للتنوع البيولوجي (1- 4)

لماذا كل هذا الزخم؟

د. محمد بن ناصر اليحيائي **

عقد مؤتمر الأمم المتحدة للتنوع البيولوجي في ديسمير 2022 في مدينة مونتريال الكندية بحضور ما يقرب من 10 آلاف مشارك؛ منهم ممثلون عن 195 دولة، وعلماء ورجال أعمال وصحفيون وممثلون عن منظمات شبابية ودينية وبيئية وأكاديمية وبحثية وقانونية وممثلون عن المجتمعات المحلية والشعوب الأصلية من شتى أنحاء العالم.

يأتي المؤتمر في ظروف غير مسبوقة وبعد مفاوضات دولية صعبة استمرت لأربع سنوات وفي توقيت بدأت فيه المؤشرات تنذر بأنَّ وتيرة انقراض الكائنات الحية في عالمنا هي الأسرع في تأريخ البشرية وبأن كوكبنا يتَّجه نحو الانقراض الجماعي السادس في تاريخ الحياة على الأرض. لا يعرف الباحثون على وجه الدقة أسباب موجات الانقراض الجماعية الخمسة السابقة والتي كان آخرها قبل 65 مليون عام والتي أنهت عصر الديناصورات مع الكثير من الكائنات الحية الأخرى. لكنهم يعرفون بشكل قاطع أسباب الانقراض الجماعي الذي يبدو أنَّه في الطريق. ويعرفون أيضًا كيف يمكننا تجنبه (لو أردنا). ولذلك يشكل المؤتمر مفترق طرق حقيقي ووصفته الأمم المتحدة بأنه فرصتنا الأخيرة لوضع الأرض على طريق التعافي.

ما التنوع البيولوجي؟

التنوع البيولوجي (مشتق من المصطلح الإنجليزي Biodiversity) ويمكن الإشارة إليه أيضا بالتنوع الحيوي، هو تنوع الكائنات الحية على كوكبنا ويشمل ذلك جميع الحيوانات والنباتات والكائنات الحية الدقيقة في اليابسة والمحيطات. وهو ليس فقط تنوع الأصناف الحية ولكن التنوع الجيني لأفراد الصنف الواحد ويشمل أيضًا تنوع الموائل الطبيعية التي تعيش فيها هذه الكائنات. والحقيقة التي علينا أن نعيرها اهتمامًا هي أن التنوع البيولوجي قائم على العلاقات المتشابكة والمعقدة بين الكائنات الحية المختلفة بشتى أصنافها. وما يمكن أن يساعدنا في فهم هذا التشابك هو العودة إلى تاريخ الحياة على الأرض وخصوصا قبل قرابة 450 مليون عام. كان المشهد مختلفا بشكل كبير عما نراه اليوم. وتدل الدراسات الجيولوجية والأحيائية على أن النباتات البدائية في تلك الحقبة بدأت تنتقل في نموها من قاع المحيطات إلى اليابسة ولم يكن ذلك ممكنًا لولا تكوينها لعلاقة منفعة متبادلة مع فطريات دقيقة احتلت جذور هذه النباتات لتساعدها على الاستقرار في بيئتها الجديدة، وإمدادها بعناصر التربة التي تحتاجها. في المقابل وفرت النباتات الطاقة التي تلزم هذه الفطريات لاستمرار دورها الجوهري. هذه العلاقة التكافلية مازالت قائمة حتى اليوم وهي نموذج لعلاقات تكافلية متعددة نشأت على الأرض مع بدايات الحياة وتطورت وتشابكت بشكل ما زال يتكشف لنا كل يوم.

غذاؤنا ودواؤنا ورفاهيتنا

يأتي غذاؤنا بشكل مباشر من الطبيعة وتنوع الأصناف على موائدنا هو نتيجة لتنوع الكائنات الحية التي تنتجها. وما هو أهم أن جودة غذائنا معتمد على درجة التنوع البيولوجي في المنظومة البيئية. فالشجرة مثلًا ليست كائنا حيَّا قائماً بذاته ولكنها وإضافة إلى العلاقة التكافلية التي ذكرناها سابقًا تعتمد على الحشرات التي تحمل حبوب اللقاح وكائنات حية دقيقة لا متناهية في أعدادها وتصنيفاتها تخصب التربة حول جذورها وكذلك على كائنات أخرى تشكل خط دفاع عنها لمقاومة كائنات ممرضة. كما إنها في كثير من الأحيان تعتمد على شبكة غير مرئية من الفطريات في التربة تربطها بالأشجار الأخرى وهي شبكة أمان لتحريك الموارد بين الأشجار عند الحاجة. وهي أيضًا معتمدة على بقايا أشجار أخرى وحيوانات لتشكل المادة العضوية في التربة التي تنمو عليها. إنها منظومة في غاية الإتقان. ولذلك فإن لكل نوع من أنواع الكائنات الحية دور ووظيفة محددة في نظام طبيعي بالغ التعقيد. ولذلك كلما كان النظام البيئي أكثر تنوعًا، كان أكثر استقرارًا، وكان أكثر إنتاجية، وكان أكثر قدرة على تحمل الأزمات البيئية التي يحدثها الإنسان في كثير من الأحيان.

كما إن دواءنا هو نتاج التنوع البيولوجي. علينا دائمًا أن نتذكر أن المضادات الحيوية هي مركبات تنتجها الكائنات الحية الدقيقة. والعلم مستمر في البحث عن مركبات جديدة من الطبيعة لعلاج الأمراض. النباتات والفطريات والطحالب أنتجت لنا -ومازالت- الكثير من الأدوية التي تشكل عنصرًا رئيسيًا في منظومة بقائنا على الأرض. وبناءً على تقديرات منظمة الصحة العالمية فإنَّ 60 في المائة من سكان العالم ما زالوا يلجأون إلى الطب التقليدي المعتمد على التنوع البيولوجي وخصوصًا النباتات الطبية، لشفاء أمراضهم.

وعلى مستوى آخر فإن التنوع البيولوجي مسؤول عن نقاء هوائنا ومياهنا؛ فالأراضي الجرداء لن تنتج لنا الأكسجين أو تنقي هواءنا والتربة المجرفة أو الملوثة لن تقوم بتنقية مياهنا التي تتسلل إلى أعماق الأرض.

كما إن علينا ألّا نتجاهل أو نُقلل من أهمية مُساهمة الطبيعة بكل عناصر تنوعها البيولوجي في مشاعرنا الإيجابية ورفاهيتنا عن طريق إسهامها في الجوانب غير المادية لنوعية الحياة التي نعيشها، بما في ذلك الإلهام والتعلم والثقافة والخبرات المختلفة. ولذلك عندما نفقد التنوع البيولوجي نفقد جزءًا أصيلًا من هويتنا البشرية وما هو ذو قيمة حقيقية. في النهاية علينا أن ندرك أنَّه لا يمكننا حصر فوائد تنوع الكائنات الحيَّة للإنسان ولكن يمكن ربما اختصارها بجملة واحدة: لن نستطيع أن نستمر بدون هذا التنوع الفريد.

** خبير الموارد الوراثية بمركز عُمان للموارد الوراثية الحيوانية والنباتية بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار

 

تعليق عبر الفيس بوك