كريسماس

فاطمة اليمانية

(عندما تعيد النظر في بعض الأمور، تكتشف أنّك لم تكن تنظر أصلًا)

***

أرسلت لي تسألني عن رأيي في الاحتفال بالكريسماس؛ لأنّ ابنتها- والتي هي طالبتي في الصف الثاني عشر-طلبت منها شراء شجرة الكريسماس المعروضة في المراكز التجارية هذه الأيام! وهي تخشى أنْ ترفض طلبها؛ فتتعرض لنوبة صحيّة! من ذلك النوع من النوبات التي تظهر بعد حدوث أيّ شيء لا يروق للكونتيسة!

وقالت إنّها سمعت من بعض العلماء الأفاضل جواز الاحتفال بالكريسماس؛ بل أفتى بعضهم بوجوب الاحتفال إذا كانت نسبة المسيحيين هي الغالبة!

وانتقدت تشدّد بعض العلماء الذين يحرّمون الاحتفال بميلاد المسيح عليه السلام، ويهوّلون عاقبة التشبّه بغير المسلمين، رغم أنّ الإنسان بإمكانه التماهي مع العالم المحيط دون أنْ يخدش ذلك عقيدته!

ولم يرق لها كلامي عندما أخبرتها بأنّ شجرة الكريسماس أساسًا تقليدًا وثنيًّا مرتبطا بالعبادات الوثنية السابقة، ودخلت بعد انتشار المسيحية في ألمانيا؛ حيث استُبْدِلَت الرموز الوثنية بالرموز الدينية المسيحية كنجمة بيت لحم، وتمثال جبريل عليه السلام.

فقالت إنّها ستزين الشجرة بالزينة الإسلامية، كالهلال، وبعض النجوم اللامعة والفراشات الذهبية، وتعلّق الحلويات العربية!

ولم أستوعب كيف ستعلّق الحلويات العربية على أغصان شجرة من البلاستيك؟! أو ما قيمة الذي تفعل من الأساس؟

لكنّها فاجأتني بالتغيّر الذي حلّ عليها، وعلى نمط حياتها! كما فاجأتني ردة فعل الطالبات على كلمة (لعينة) في (قصيدة حب إلى مطرح) للشاعر سيف الرحبي، عندما قال:

  • لم أنسَكِ بعد كل رحلاتي اللعينة!
  • لم أنسَ صيّاديك وبرصاكِ النائمين بين الأشجار!

 فلم تحفل الطالبات بالشرح، وركّزن على كلمة (لعينة)؛ وأخذن يتلقّفنها فيما بينهن، وأنا أردد لهن الحديث الشريف:

  • (ليس المؤمن بالطّعان، ولا اللّعان، ولا الفاحش البذيء).

 لتقف الطالبة معترضة:

  • الآن حرام؟ وتحلّلون اللعن في النصوص الأدبية؟!

ثم دخلت في نوبة هلعها المتوقعة؛ لأنّي طلبتُ منها قبل الحصّة الكف عن احتضان زميلاتها؛ والتقليد الأعمى لما تشاهده من مسلسلات مدبلجة! وإلّا سيصل الأمر لإدارة المدرسة! كما نبّهتها لطول أظافرها، وطلبتُ منها ارتداء الحجاب في المدرسة، فقالت لي بأنّها ليست محجّبة أساسًا!

ثمّ هاجمت النص الشعري، واللغة العربية، واختبار اللغة العربية الذي لم تمتحنه بعد! وحتّى سيبويه لم يسلم  منها، ولا المتنبي الذي قالت إنّه يثير غيظها! وبأنّها لا تحتاج إلى حفظ أشعار المتنبي! وقبل أن تمثل الإغماء قالت وهي ترتعش:

  • وما شأننا به وهو يسب كافور، ويمدح سيف الدولة، ويرثي جدّته؟!

ثم أغمضت عينيها وسقطت بلطف على الكرسي؛ وأخذت تتنفس بسرعة، ثم كتمت أنفاسها، فسارعت زميلاتها بأخذها إلى غرفة الأخصائية؛ لتأتي أمّها بدورها وتأخذها من المدرسة!

كانت أمّها زميلتي في السنوات الأولى من التعيين، وكانت محجّبة ويصل نقابها إلى ركبتها، وقالت لي في أول يوم لي بالمدرسة:

  • السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنا أم الطالبة.
  • تشرّفنا!
  • ردّي السلام أولًا!

فأدركت أيّ نوعٍ من الزميلات ستكون!

فجنّدت نفسها لي؛ وكانت تضع كلّ صباحٍ كُتيّبًا صغيرًا على طاولتي يتحدث عن الحجاب والنار، والقبر والنار، والنار والنار! ولا أذكر أنّ أحد الكتيّبات سلم عنوانه من كلمة نار وتهديد ووعيد!

وكنت أجمع الكتيّبات في صندوق صغير؛ حتّى إذا نست يومًا ما إحضار كتيّبًا؛ أعطيها واحدًا لتضعه على طاولتي!

فسئمت منّي، وجلست قربي متصنّعة اللطف، وقالت لي:

  • أنتِ ما شاء الله تصلحين لدور الواعظة! ما رأيك أن تنضمّي إلى فريقنا؟
  • كرة القدم؟!
  • دمك خفيف! هه... فريق الأخوات الصالحات.

وعندما اعتذرت؛ أطلقت عليّ لقب الشيطان الأخرس؛ وكانت كلّما رأتني ردّدت على مسامعي:

  • الساكت عن الحق شيطان أخرس!

ولم يشفِ ذلك غليلها؛ بل أخذت تلمزني بالكلام في أيّ تجمع، وتتحدث عن الأخلاق والدين، والتربية!

فنأيتُ بنفسي عنها؛ واتخذت مكتبة المدرسة مقرّا لي بين الحصص. ويومًا ما دخلت غرفة المعلمات؛ فرأيت معظم معلمات المدرسة جالسات في صمت، وأم الطالبة تقرأ "رياض الصالحين"، فاتّجهتُ لطاولتي لأخذ سجل الدرجات؛ فأشارت لي إحدى زميلاتي للجلوس، وفعلا جلست! ورفعت يدي بالدعاء على غرار زميلاتي، وهن يرددن آمين... آمين.

ولم أكد أرفع بصري حّتى رأيت أم الطالبة وهي تسترق النظر إليّ؛ لتقيس درجة إيماني! أو تفاعلي مع دموعها وشدّة تأثّرها بالدعاء!

وكدت أنفجر ضحكًا، وانسحبت بهدوء إلى المكتبة! لأنّها مصرّة على أنْ تجرّدني من الدين، وكل تلك الضجة التي أثارتها حولي؛ لأنّي رفضت أن أكون تابعًا لأمر من صنع أفكارها، ولا علاقة له بالدين!

ولا أنسى كيف كانت تتباهى بحفظ المصحف كاملًا، وبشّرتنا بأنّ ابنتها- التي أسمتها على اسم واحدة من أمهات المؤمنين، ستكون سيّدة من سيّدات الدعوة الإسلامية.

لتمرّ السنوات، وتكبر ابنتها، ويشاء القدر أنْ أكون معلّمتها في الصف الثاني عشر؛ واتفاجأ باتصّال زميلتي السابقة، التي نسجت لي سطور الامتنان والثناء؛ وبأنّي قدوتها في الحياة! وعاتبتني بحرقة لانقطاع التواصل بيننا!

فاغتنمتُ الفرصة؛ لأخبرها عن تصرّفات ابنتها في المدرسة، وبأنّها تطالب البنات بأن ينادينها (جيجي) فهي مغرمة بعارضة الأزياء جيجي حديد!

فردّت عليّ ردا مفاجئًا هو الآخر:

  • ما زالت طفلة!
  • في الثامنة عشرة من عمرها؟!
  • أنتِ تعرفين وتعلمين... كما أنّها مصابة بنوبة! و...

وما أهمّية ما أعرف أو أجهل؟ لكنّ هذه الإنسانة التي لا تتورع الآن عن الاحتفال بالكريسماس، كانت يومًا ما تتربص بالجميع، وأزعجت الطالبات، والمعلمات، والعاملات! ووصل الأمر بها للنباح في وجه طالبة سقط حجابها سهوًا؛ فاتهمتها بتعمّد إسقاط حجابها! ولم تصمت حتّى أبكتها قهرًا وإحراجًا!

بينما غفلت عن تربية ابنتها؛ فأصبحت من أسوأ الطالبات سلوكًا في المدرسة، وأعدّت قوالب جاهزة للتبرير، فهي مريضة، ومصابة بنوبة!

والأكيد الأكيد الذي أعرفه تمامًا؛ أنّها كانت يومًا ما تترأس جماعة (الأخوات الصالحات)!