يوسف عوض العازمي
alzmi1969@
"أعمق موضوع في تاريخ الإنسان هو صراع الشك واليقين"، غوته.
-----
كتابة التاريخ لاعلاقة لها بكتابة سيناريو مسرحية كوميدية، ولا تصلح لتكون نشيدا وطنيا، ولا هي رأيا شخصيا لهذا أو هؤلاء، وإنما هي تسجيل محضر ووثيقة تبيان للحدث أيا كان كما هو بالضبط بلا إضافات أو زيادة أو نقصان، وألا يحمل الأمر بعاطفة أو ضغينة، هذه هي كتابة التاريخ غير ذلك فأنت أمام كتابة نص قد يصلح أو ينفع لأي شيء عدا التاريخ.
قبل أيام كنت أتحدث مع باحث في التاريخ وكان الحديث حول معقولية المصداقية المطلوبة في كتابة التاريخ، على اعتبار ألا نحمل الإنسان أكثر مما يحتمل، وألا نضع المؤرخ في مواجهة غير متكافئة مع سلطة أقوى، وكيف يتم التوازن بين حرية التأريخ وقيوده، وأخلاقية الكتابة التاريخية بتجرد وصدق، وتوقفنا أمام حاجز الحرية وكيف أن المؤرخ في الأساس مواطن بسيط أو هكذا يفترض، وكيف لهذا المواطن البسيط أن يكتب بمهنية وأمانة عن حدث ما، وقد تتطلب هذه المهنية والأمانة أن لاينسجم مع خطاب قيادة بلده السياسية، هنا ما الذي سيحدث، أو قل ما الذي يفترض أن يعمله المؤرخ، كان الاتفاق بيني وبين الباحث هو أن يقوم المؤرخ بأضعف الإيمان، وهو عدم الكتابة بالأساس، على قاعدة ألا تكتب خير من الكذب!
تخيل أن مؤرخا أوكرانيا أرخ للحرب الحالية بصفحات لا تُؤيد توجهات حكومة بلاده، وقدم تأريخا لا ينسجم مع سياستها ضد الروس، وبرر ذلك بقناعاته وبأنه ينقل الحدث برمته، ومايراه، هنا، هل سيعتبر خائنا وعميلا للعدو، أم سيكون قد قام بواجبه بأمانة ونزاهة؟
لست بصدد جدلية التذكر والنسيان، فهذه لاعلاقة لها بمهنية المؤرخ، نحن هنا أمام خطأ أو صواب، أي طبيعة بشرية لكني آخذك إلى تبيان حركة التاريخ وتحريك شخوصها، وممرات فتراتها الزمنية المتارجحة بين الأحداث التي غيرت وجه العالم، نعلم أن الأديان لها وجه في تغيير نواح عديدة في التاريخ من خلال تأثيرها على بنية الأحداث التي تأخذ طابعا عقائديا، وكذلك التطور العلمي له سمة في فهم تطور الأحداث وهنا أيضًا سأذكرك بمساع وتحركات اكتشاف الكشوف الجغرافية التي غيرت وجه العالم آنذاك بعد اكتشاف طريق الرجاء الصالح، ولاشك البداية كانت من هنري الملاح مرورا بارثيلميو دياز ووصولا لفاسكو دي غاما الذي قطع المسافة إلى ميناء كاليكوت دون الحاجة للإبحار في مياه المتوسط، وكذلك اكتشاف العالم الجديد في الأمريكتين وما تلى ذلك من أحداث سجلها التاريخ ومازال بعضها محل بحث وتفنيد مستمر، حركة الكشوف الجغرافية بالذات كانت حجر الأساس لتقديم عالم جديد آنذاك، عالم توسعت به طرق التجارة، وأصبحت الخيارات أكثر من ذي قبل، لكن أيضا هناك من تضرر، ومنه نشطت حركة تجارة الرقيق، مثلما ازدهرت تجارة التوابل القادمة من الشرق.
حتى الحدث الأكبر في العالم المعاصر والذي بسببه تفككت إمبراطورية الاتحاد السوفييتي وبعدها تبدلت أحوال دول حلف وارسو، إذ تعددت الكتابات المؤرخة لهذا الحدث الفارق، بل قامت بعض الكتابات باصطناع أسباب غير موضوعية لانهيار الاتحاد السوفييتي، وبالطبع تم ربط شخصية الرئيس الأخير ميخائيل غورباتشوف بعدة احتمالات جلها غير موثق، ولاشك سقوط منظومة ضخمة كمنظومة السوفييت ليس حدثا عاديا، لأنه غير وجه العالم سياسيا إذ كان في سقوط موسكو انتهاء الحرب الباردة فعليا، وبالتأكيد سنقرأ مستقبلا كتابات تؤرخ بموضوعية الأسباب الحقيقية وراء السقوط المدوي لتلك الإمبراطورية الهائلة القدرات والموارد، وهي أسباب قد ترجع لاعتبارات ستثبتها الأيام فيما بعد، بعيدا عن الكتابات ذات الأفق الخيالي الواسع!
عندما نتحدث عن التاريخ فلأننا نتحدث عنه، وليس عن رجل استخبارات يكتب تقريرا ثم يحسبه ضمن أوراق التاريخ المعتد بها، وبالطبع قد يصبح تقريره وثيقة لكنها ليست التاريخ، أو نقرأ لكاتب روائي يدور بمخيلته حول حدث ما ويصوره بحسب آيديولوجيته وتصوره السياسي ثم يؤكد أنَّ ما يكتبه تاريخ!
ترك التاريخ لمن يكتبه بموضوعية وأمانة قد يُعتبر الإنجاز المكمل لأيِّ حدث ما، أما توارد الخواطر وأن تعمل نسخا ولصقا وتجمعه في كتاب وتنشره فذلك عبث وليس كتابة حقيقية أمينة للتاريخ، وكتابة التاريخ لا تحتمل تدخل المؤرخ للتعديل، أما التحليل التاريخي فمسموح له وأن يطلق العنان للاجتهادات والتحليلات والتصورات، وهو فن قائم بذاته.