مدى فاعليَّة بدائل العقوبات الحبسية

خالد بن سالم المريكي **

لا شك أن عقوبة السجن التي يتم تطبيقها على الفرد تُخلّف وراءها آثارًا سلبية؛ سواءً على الفرد نفسه أو حتى على أسرته وكذلك المجتمع الذي يعيش فيه، بما في ذلك الدولة التي ينتمي إليها هذا الفرد.

ومن تلك الآثار ما هو نفسي ومجتمعي؛ بل حتى اقتصادي، أمَّا من حيث الآثار النفسية والتي تقع على الفرد الذي قُضي عليه بالسجن هو صعوبة تكيفه مع بيئة السجن وتفكيره بما وقع عليه من مصير حتمي حرمه لذة العيش الهانئ بين أسرته وأفراد مُجتمعه، كما يترتب على ذلك تفكيره بعد إنقضاء فترة محكوميته وخروجه للمجتمع من جديد كيف سيُقابله الآخرون ممن هم على دراية بما وقع عليه، كل ذلك قد يؤدي إلى إيقاعه في دائرة القلق والوسواس الأمر الذي بالإمكان أن يقوده إلى التفكير بإذاء نفسه أو حتى من حوله، ولا شك أنَّ ذلك يأتي نتيجة شعوره بالغبن أو الظلم الذي تولّد في ذهنه، ناهيك عن تأثر أسرته نفسيًا لفقدهم أحد أفراد الأسرة، كما أن ذلك قد يؤثر في نظرة الآخرين إليهم والتي قد تصل ربما إلى التحقير.

وبالتطرق إلى الآثار الاجتماعية التي قد يُخلّفها سجن الفرد، فهناك عبارة تقول "السجن مقبرة للأحياء، شماتة للأعداء، به يُعرف الأصفياء"، وهذه المقولة بلا شك بالكاد تكون مطبّقة في مجتمعاتنا العربية؛ حيث إن الفرد بعدما تُطبّق عليه عقوبة السجن ربما يقاطعه الأقرباء والأصدقاء والمعارف، بل يكون غير مُحبذ من أفراد مجتمعه إطلاقًا بعد خروجه من السجن، كل ذلك يؤدي إلى إصابته بالإحباط والعزلة؛ الأمر الذي يُسهم في استمراره في الطريق غير السوي الذي يقوده للعودة إلى السجن مرة أخرى.

كما يكون لذلك تأثير كبير بالنسبة للجوانب الاقتصادية عند دخول الفرد للسجن، ويتمثل ذلك في فقده لوظيفته نتيجة جسامة العقوبة الواقعة عليه، ومن ثم حرمان أسرته من متاع الحياة الذي كانوا معتادين عليه في ظل قُربه منهم، وبالأخص في حال كونه المُعيل الوحيد لهم، وهذا بلا شك قد يؤدي إلى تدهور الوضع المالي الطبيعي للأسرة الذي كانت معتادة عليه؛ بل قد يُؤدي بهم الأمر إلى متلقين للمساعدة بعدما كانوا في غنى عنها، أو القيام بسلوك مخالف للحصول على مقدار المال الذي يؤمن لهم استمرار الوضع المالي الذي كانوا معتادين عليه، علاوة على ذلك فإنَّ اكتظاظ السجون بالمحكوم عليهم يُكلف الدولة الكثير من المال، وهذا بدوره يؤدي إلى استنزاف الخزينة العامة. وبالرغم من قيام الدولة بصرف الكثير من المال لتأهيل هذا الفرد في السجون بغية إصلاحه، فمن الممكن عدم تحقق غاياتها المرجوة من وراء تلك العقوبة الحبسية التي طُبقت على هذا الفرد.

كل ذلك يقودنا إلى إعادة النظر في تطبيق عقوبة السجن على الجناة، وبالذات على الذين لا يحملون أي سوابق جُرمية، لإعطائهم الفرصة على إصلاح الذات، وكذلك خشية اختلاطهم بالسجناء والاعتياد على أفعالهم التي بلا شك لن تكون نافعة ولا مثمرة لا على الفرد ولا على المجتمع، الأمر الذي بات معه من الواجب على المشرع العربي أن يضع ذلك نصب عينيه إعادة النظر فيه واستحداث عقوبات بديلة تكون صالحة لتحقيق الردع بشقيه الخاص والعام لتكون بديلة لعقوبة السجن.

وفي مقالنا هذا، فإننا نخص المشرع العُماني الذي لم يتطرق للعقوبات البديلة في قانون الجزاء الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (7/ 2018)، وإنما اكتفى فقط بإيراد عقوبات تبعية وتكميلية وفق الواردة حصرًا في المادتين (57 و58) من قانون الجزاء المشار إليه، والتي لا يتم اللجوء إليها من قبل القاضي إلا عند النطق بالعقوبة الأصلية على المُتهم، بمعنى لا يمكن أن تأتي وحدها؛ كون المشرع اعتبرها تابعة أو مكملة للعقوبة الأصلية المقضي بها، فهذه العقوبات تكون حتمية على المتهم في حال إدانته في جناية ويطلق عليها هنا العقوبات التبعية. أما إذا كان تطبيقها على المتهم متوقفاً على نطق القاضي بها فيطلق عليها عقوبات تكميلية، وفي كل الأحوال فإنَّ النطق بالعقوبة الأصلية على المتهم، كعقوبة السجن الصادرة في جناية مثلًا، فإنِّه- وإن استتبعها بقوة القانون إحدى العقوبات الواردة في نصوص المواد المشار إليها- لا يمكن أن تكون بديلة للعقوبة الأصلية، وإنما تكون مترادفة مع العقوبة الأصلية كونها جاءت نتيجة الحكم بها؛ الأمر الذي يزيد من معاناة المتهم المحكوم عليه (ونخص هنا المتهم الذي لا يحمل أي سوابق جرمية) لتنفيذه عدة عقوبات نتيجة فعله الذي قد يكون صدر منه على غفلة أو دون قصد، وبالتالي لا يمكن للمشرع أن يساوي هذا المتهم مع غيره من المتهمين الذي يحملون سوابق جرمية ومعتادين على دخول السجون.

وهو الأمر الذي انتهجه المشرع البحريني عندما أصدر القانون رقم (18) لسنة 2017 بشأن العقوبات والتدابير البديلة؛ حيث صرح خلاله للقاضي باستبدال العقوبة الأصلية بعقوبة بديلة تكون حدتها خفيفة على المتهم، كما صرح كذلك للنيابة العامة باستبدال الحبس الاحتياطي بعقوبات بديلة لحين التصرف في القضية سواءً بالإحالة للمحكمة المختصة أو حفظ التحقيق فيها. ويعتبر منهج المشرع البحريني بشأن العقوبات البديلة في قمة الصواب كونه لا يُخلّف أي آثار نفسية أو اجتماعية بل حتى الاقتصادية على المتهم ومجتمعه، وكذلك الدولة التي تتجنب صرف مبالغ كبيرة على السجون في حال ازدياد أعداد المساجين داخلها، الذي بِلا شك سيُكلّف الدولة مبالغ باهِظة يتم صرفها في رعاية المساجين وإعادة تأهليهم على أمل إعادتهم للمجتمع صالحين.

وعلى هذا الأساس، بات على المشرع العُماني أن يُعيد النظر في استحداث عقوبات تكون بديلة للعقوبات الأصلية؛ كعقوبة السجن المقضي بها على المتهمين الذي لا يحملون أي سوابق جرمية، حتى يتم إعطاؤهم الفرصة لإعادة النظر فيما أقدموا عليه من فعل، وليكونوا ضمن نسيج المجتمع؛ الأمر الذي يُجنبهم الاختلاط بالمجرمين الخطرين الموجودين في السجون ومجالستهم؛ خشية الاعتياد عليهم والأخذ بسلوكهم الذي بلا شك سيقودهم لتكرار تلك الأفعال التي ستعود بهم إلى السجن مرة أخرى. ولا يفوتنا ما أورده المشرع العُماني في قانون المخدرات الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (17/ 99) في مادته (47)- الفقرة الأخيرة- عندما أجاز للمحكمة أن تستبدل عقوبة السجن بعقوبة بديلة وهي إيداع المحكوم عليه إحدى المصحات لعلاجه. ولو نظرنا وفي حالة تم تطبيق هذه العقوبة على المتهم حديث الإجرام لوجدنا أن لذلك آثارا إيجابية أكثر من كونها سلبية عادت على الفرد من خلال تسويته على الطريق المستقيم، وكذلك الأمر يعود بالنفع على أسرته ومجتمعه كونه ولعدم اختلاطه بالسجناء سيكون شخصًا سويًا يخشى تكرار ما فعله سابقًا.

ولا نعني بمقالنا هذا أن يتم تطبيق العقوبات البديلة لعقوبة السجن في جميع الأحوال؛ بل نرمي من وراء ذلك لتطبيقها على المتهمين المحكوم عليهم بعقوبة حبسية في الجنح أو المخالفات؛ بل حتى المتهمين المحكوم عليهم لأول مرة في جناية من النوع الذي لا يشكل خطرًا على المجتمع بمعناه، كونه وكما أسلفنا بيانه أن هذا المتهم قد أتى بالفعل عن غير قصدٍ منه أو نتيجة إهماله، وفي الوقت نفسه قد لا يكون صاحب سوابق جرمية، وبالتالي دخوله للسجن قد يجعله كذلك، أما إذا تمَّ تجنيبه دخول السجن باستبدال العقوبة الحبسية الصادرة في حقه بعقوبة بديلة كأن يتم منعه من الإقامة في مكان مُعين أو ارتياده، أو غيرها من العقوبات التي يرى المشرع أنها مناسبة لأن تكون بديلة لعقوبة السجن في بعض الحالات، فإنه بلا شك ستكون هذه العقوبة رادعًا له وتنبيهًا لعدم عودته لارتكاب ذلك الفعل أو غيره من الأفعال المجرمة قانونًا مرة أخرى.

ويمكن ضبط ذلك بأن يتم تطبيق السوار الإلكتروني كما هو الوضع الذي تم تطبيقه على المحجور عليهم في ظل انتشار جائحة كورونا (كوفيد-19)، وبذلك يتم متابعة المحكوم عليه والتأكد من تطبيقه للعقوبة البديلة، والتي بلا شك لن تخلف أي آثار سلبية لا على الشخص المطبقة عليه ولا على مجتمعه، كما إن ذلك لن يُكلّف الدولة أي مبالغ كبيرة يتم صرفها على الفرد في حالة تم تطبيق العقوبة البديلة في حقه، ناهيك وكما سبق بيانه بأنه وفي الغالب الأعم عدم فاعلية العقوبة (الحبسية) في الردع الذي ينشده المشرع من وراء ذلك، بل قد يكون العائد من ذلك زيادة المعتادين على ارتكاب الجرائم والعودة للسجون، وهو الأمر الذي يشكل عبئا كبيرا على المجتمع والدولة.

وحيث إنه وبالنظر لإحصائيات ارتكاب الجرائم داخل السلطنة خلال الثلاث سنوات الماضية سنجد أن غالبيتها هي جرائم الشيكات بدون رصيد المجرمة بنص المادة (356) من قانون الجزاء العُماني المشار إليه في هذا المقال والتي تكون عقوبتها السجن من شهر إلى سنتين، وكذلك الجرائم المخالفة لقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (12/ 2011) وبالأخص الجرائم المخالفة لنص المادة (16) من هذا القانون والتي تكون عقوبتها السجن من سنة ولغاية ثلاث سنوات، والناظر لتلك العقوبات الحبسية ومقدارها سيجد أنها قاسية مقارنة بالفعل المقابل لها، والمتتبع لقضايا الشيكات خلال السنوات الماضية سيجد أن غالبية أفراد المجتمع قد وقعوا فيها جراء تعثرهم عن سداد المبالغ المقابلة للشيكات التي تم تحريرها من قبلهم بسبب ما وقع عليهم من تأزم مالي جراء الأوضاع التي خلفتها جائحة كورونا (كوفيد-19)، وهذا أمر لا يخفى على أحد، حيث إنه ولو كان المشرع سبق وأن أورد عقوبات بديلة فإنه من الأولى أن يتم تطبيقها في مثل هذه الجرائم كونها جرائم لا تحمل أي خطورة إجرامية بمعناها، إلا أنه ولعدم وجود تلك البدائل من العقوبات فإنه بات غالبية أفراد المجتمع يقبعون في السجون لمدد مُتفاوتة، الأمر الذي عاد عليهم وعلى أسرهم والمجتمع بآثار سلبية لا زالوا يعانون منها إلى يومنا هذا.

وفي ختام حديثنا.. نُناشد المشرع العُماني إعادة النظر لاستحداث عقوبات بديلة لعقوبة السجن، على أن يتم وضع ضوابط تطبيقها حسب جسامة الجرائم المرتكبة، وكذلك حسب السوابق الجرمية للمتهم، كل ذلك بِلا شك سيؤدي إلى فوائد عدة تعود على الفرد من خلال إصلاح نفسه وتهذيبها ومعاهدة الذات على عدم العودة لارتكاب ذلك الفعل أو غيره من الأفعال المُجرمة قانونًا، وكذلك سيعود ذلك بالنفع على أسرته كونه سيكون موجودا بجانبهم أو على الأقل يُجنّبهم وصمة العار التي ستطالهم في حالة زجّه خلف القضبان، والأمر الأكبر هو تجنب الخزانة العامة للدولة الإنفاق عليه لإصلاحه وتأهيله على أمل عودته للمجتمع فردًا نافعًا وهذه النظرية التي خالفتها أغلب الدراسات كونها وفي الغالب الأعم لا تجني أي فائدة لا على الفرد ولا على مُجتمعه، كونه وبمجرد حبسه واختلاطه بالسجناء الذين يكون من بينهم ذوو السوابق الجرمية فإنِّه بلا شك سيتأثر بهم وسيعود للمجتمع شخصا يحمل نوعا من العدوانية نتيجة تفكيره بعدم قبوله من قبل أفراد المجتمع الأمر الذي سيؤدي به إلى ارتكاب جرائم أخرى ومن ثم العودة مرةً أخرى للسجن.

** محامٍ وباحث ماجستير في القانون الجزائي بجامعة السلطان قابوس

تعليق عبر الفيس بوك