مؤشرات لا تُرصَد!

 

د. صالح الفهدي

 

لدينا مراصِدَ للأَنواءِ المناخيَّةِ ترصدُ الحالات المداريةِ، والأَنواءَ المناخيَّة منذ نشأتها، حتى تلاشيها، ولدينا مراصِدَ للزَّلالِ ترصُدُ الهزَّاتْ التي تحدثُ في طبقاتِ الأَرضِ، لكنَّنا نفتقدُ إلى أهمِّ المراصدِ؛ تلك المتعلِّقةِ برصدِ المتغيِّرات الإجتماعيَّةِ التي تأتِ على أحوالٍ مختلفةٍ بالغةِ التعقيدِ في بعض الأحيان، بيدَ أنَّ كلَّ ما يحدثُ في المجتمع إنَّما هي أعراضٌ لأمراضٍ لا يمكن تجاهلها بالقولِ إننا "مجتمعٌ ليس ملائكي"، ومن قالَ إننا كذلك؟ إِنَّما إِن سلَّمنا بهذه المقولة تسليمًا لا يتركُ لنا مجالًا للتفكُّرِ والتمحيصِ في الأسباب فإننا كمنَ يُهمِلُ جسدهُ الذي يُظهر عرضَ المرضِ بين آونةٍ وأُخرى، وهو يقول: "لا يسلمُ الإِنسانُ من الداء" ولا يفعلُ إزاءَ ذلك شيئًا من تجريبِ علاجٍ، أو تشخيصِ مرض، فيتغوَّل فيه حتى لا يعودُ قادرًا على البرءِ والإستشفاءِ منه!.

أنْ تحدث جريمةٌ قتلٍ في المجتمع، فإنَّ ذلك يستدعي استنفار المجتمع برمَّته، استنفارَ البيتِ الذي نشأَ على السَّلام والأَمنِ والمحبَّة، فيتتبَّعَ الأَسبابَ بغيةَ معالجتها، ويستقصي الذرائع لأجلِ اجتثاثها، لا أن يمضيَ الأَمرُ بعد الصدمةِ كأيِّ أمر، وهو جدُّ خطيرٍ مثَّل الله سبحانه وتعالى خطورته في قوله: "مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (المائدة: 32). مقتلُ نفسٍ واحدةٍ يعني مقتل أهل الأرضِ جميعًا، وإحيائها إحياءً لجميع من في الأرض، فالقضيَّةُ لا تعني رقمًا، وإنَّما نفسًا، والنفسُ إنَّما هي روحٌ كبقية الأرواحِ الإِعتداءَ عليها يعني الإِعتداءِ على الجنس البشري عامَّة وكذلك هو الإِحياء.

المؤشرات الاجتماعية التي تظهرُ على صورٍ شتَّى تحتاجُ إلى رصدٍ دقيقٍ من قِبل مراكزَ إرصادٍ اجتماعي، لا تنظرُ إلى القضيَّةِ –على اختلافِ صورها- على أنها مجرَّد "حالة فردية" وإنَّما تتبَّعُ خيوطها، ودواعيها ومؤثراتها، فالذي أنشأ تلك الحالة سيكون سببًا لنشوءٍ ألفَ حالةٍ مثلها، إن لم تعيَّنَ الأَسباب، ويُبادر إلى القضاء عليها، يقال: "ضربةٌ في الجذور، تُغني عن ألف ضربة على الأوراق"، وما لم تحدث تلك الضربةُ على الجذور لتجتثَّ الأسباب، فإن الضربات لن تُغني على الأوراق أو الغصون.

سألتُ ذات مرَّةٍ خبيرًا اجتماعيًا في مؤسسةٍ معنيَّةٍ بالمشكلات الناشئةِ عن الأُسرة: ماذا تفعلون لردءِ حدوث المشكلات، أجاب: لا نفعلُ شيئًا، عدا عن استقبال الحالات بعد وقوعِ الحوادث! وهُنا تقع الإشكالية الكبرى، فجريمةُ القتل حين تحدثُ تقوم الجهات القانونية بالبحث عن الملابسات التي اكتنفت القضيَّة، لكنها تبحثُ في إطارِ مسؤوليتها بعد وقوعِ الحادثة، وكذا الأمرُ يحدثُ لحالةِ انتحارٍ، أو لشذوذٍ فكري، أوعقدي أو غير ذلك.

قد يصل المجتمع لحالة يمكنُ أن نمثِّلها كحالةٍ شجرةٍ تراكمت عليها نفاياتٌ، وأدخنةٌ، وأتربةٌ، وكل ما يمكنُ أن تلقي به الرياحُ العواصفُ عليها حتى تثقلها، وتغيِّر من لونها، بل ومن شكلها، وهُنا لا يمكنُ للشجرة أن تنمو إلا أن تنفضَ نفضًا، لتتساقط كل ما تراكم فيها من نفايات، ثم تشذَّب أغصانها، وتعود شجرةً كما كانتَ في أوجِ خضرتها، خفيفةً الحمل، رشيقةَ الأفنان، الأمر الذي يهيِّؤها لرحلةٍ نموِّ جديدةٍ، تجودُ فيها بثمرٍ، وظلٍّ واخضرار ويفاعة، وهكذا هو حال المجتمع الذي تكدست فيه الأمراض الإجتماعية والفكرية والنفسية فأصبحَ مشوَّها في أنساقه الثقافية، وفي أشكال هويته، وفي علاقاته الإجتماعية، وفي نظم تفكيره، وفي انواع أهدافه، يحتاج إلى نفضِّ شديدٍ كما نفضت تلك الشجرة، وشُذِّبت أَوراقها.

هذا الأمر لا بُدّ وأن ينبري له صنَّاع السياسات الذين ينظرون بعمق إلى مسارات المجتمعات، وهو ما نراهُ في بعض الدول خاصة الكبرى ومنها الصين التي تراقبُ مسار المجتمع، وتصحح مساره إن انحرف عن المسار التاريخي الذي تسيرُ عليه الأُمة الصينية.

لا يمكنُ ترك المجتمع يمضي "على البركة" بكل أمراضه وأعواره دون تشخيصٍ وتمحيصٍ ثم علاج ومراقبةٍ، فإن المجتمعات لا تلبثُ أن تنخرَ داخليًا بأمراضٍ شتَّى محسوسة وغير محسوسة، المخفي فيها أعظم خطرًا من الظاهر، وما ينقذُ الأوطان من هذه الإشكالات إلا الفطناء، الحكماء الذين يتمتعون ببصيرة نافذة، وفكرةٍ ثاقبة.