وما أدراكم بالنميمة المدمرة؟!

 

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

 

الغيبة والنميمة من الأمراض الاجتماعية الفتاكة التي تنخر في المجتمع مثل السوس في الخشب، وتدمر العلاقات الإنسانية بين البشر وتتمدد وتشتعل كالنار في الهشيم، إنها أفكار شيطانية يقوم بها ضعفاء النفوس وأصحاب الفتن في المجتمع.

وكان هناك اعتقاد لدى البعض بأن النميمة تنتشر على نطاق واسع بين أفراد المجتمع الذين يعانون من الجهل والأمية والتخلف، ولكن أكدت لنا الأيام أن الأمر لا علاقة له بالمستوى التعليمي فقط؛ بل هناك ثقافة التشكيك في كل شيء والتي تترعرع في التربة الخصبة المضللة لدى البعض، وذلك في إطار غياب الوازع الديني والأخلاق الحميدة للأسرة. فقد نهى ديننا الحنيف عن اغتياب الناس وذكر الآخرين بما يكرهون في غيابهم، فإذا كان ذلك صحيحاً، فتلك هي الغيبة المنبوذة. أما إذا كان ما تم قوله وتدواله عن الناس غير صحيح فذلك زورا وبهتانا والعياذ بالله.

أما النميمة، فهي نقل الحديث بين الناس بهدف الإفساد وإيقاع العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع الواحد، فهناك من المغضوب عليهم من اختاروا أن يلعبوا دور الشيطان في نقل الكلام في المجالس العامة والمقاهي والمكاتب والجلسات الجانبية وذم الناس والحديث عن عوراتهم أمام الملأ. لقد حان الوقت لغسل القلوب والأنفس من الأحقاد والضغائن التي تراكمت على مر السنين في نفوسنا لمن حولنا من البشر، فالدنيا متاع الغرور، ولا تستحق أن نخاصم الإخوة والجيران والأصدقاء؛ من أجل الكسب والفوز بالغنائم بأية طريقة كانت، حتى لو كان ذلك على حساب المبادئ والقيم والأخلاق التي تربينا عليها وورثناها عن الآباء والأجداد، الذين كانوا يؤثرون على أنفسهم ويضحون من أجل الآخرين، ويرضون بما قسم الله لهم، وما تجود به هذه الحياة من نعم، وإن كانت بالكاد تكفيهم وتغنيهم عن سؤال الآخرين.

ومن الظواهر الاجتماعية التي ظهرت في مجتمعنا في العقود الأخيرة، الحقد الدفين ضد المسؤولين في البلد وكيل التهم جزافًا، وبأسلوب غير مبرر ودون دليل دامغ، فهؤلاء يتم تصنيفهم جميعًا؛ في خانة الفاسدين والمعتدين على المال العام، ونحن هنا لسنا في المدينة الفاضلة، فقد نجد بعض أصحاب النفوذ قد وقعوا في المحظور؛ خلال عملهم في الوظائف والمناصب العليا، ولكن ربما نحن بعيدون وعاجزون عن تقديم الأدلة والبراهين التي قد تدين هؤلاء على عملهم المخالف؛ فالجهات الرقابية في الدولة هي التي لديها القدرة على رصد تلك الأعمال التي أصبحت تقلق الجميع، فالتشريعات والقوانين الصادرة قد منحت الأجهزة الرقابية المدنية منها والأمنية التحرك بدون مجاملة إن كان للمحافظة على موارد البلد وثرواته الوطنية من عبث أصحاب النزوات والمصالح الشخصية، وذلك لقطع الطريق على الشائعات وما يتم تدواله بشكل دائم عبر القنوات الشخصية من تجاوزات لأصحاب النفوذ والسلطة.

صحيحٌ هناك من يتغنى وبشكل دائم بالعديد من المصطلحات التي لا وجود لها على أرض الواقع، وبالفعل قد استهلكت وتحتاج إلى إعادة النظر في ما نقوله من كلام نظري يفتقد للمصداقية والتطبيق؛ فالحوكمة والنزاهة مثلا؛ لا يمكن لهما أن يتحققا بأي حالٍ من الأحوال بجرة قلم أو حسن النية بالمسؤولين وصناع القرار في أي بلد من بلدان العالم؛ بل نحتاج إلى تأسيس قواعد صلبة ومنهجية واضحة؛ تقوم بالدرجة الأولى على التدقيق في اختيار قيادات نزيهة وأمينة وتحمل ضميرًا حيًا ووازعًا دينيًا، وكذلك تتمتع بكفاءات علمية رفيعة، ونظرة ثاقبة في التخطيط، والتنفيذ السليم للخطط والمشاريع، والتوظيف في المناصب والإدارات في الوزارات والشركات الحكومية، التي استحدثت في معظمها للانتفاع الشخصي.

والبعد عن المحسوبية والعلاقات الشخصية التي كانت سائدة في بعض التعيينات الوزارية والإدارية خلال العقود الماضية، أصبحت من الضروريات التي يجب الوقوف عليها والتخلص منها الآن، في هذه المرحلة التي تعاني فيها البلد من العديد من التحديات؛ حيث إن توظيف الشباب ومديونية الدولة وتحقيق أهداف رؤية "عُمان 2040" على أرض الواقع، من أهم الملفات التي يجب أن تكون حاضرة في أجندة واهتمامات صنع القرار، وذلك لكي نبدد مخاوف أعضاء المجتمع الذين يتطلعون إلى حياة أفضل يسودها الاستقرار الرخاء والحياة الكريمة للجميع، على الرغم من أن بعض مشاعر عامة الناس تميل إلى "نظرية المؤامرة" تجاه المسؤولين عن أحوال المجتمع في زمن ارتفعت فيه الأسعار، وزادت فيه الضرائب، وانفتح الباب على مصراعيه لدعاة الفتن والشائعات في بلدنا لترويج بضاعتهم بسهولة ويسر.

ولم يسلم القطاع الخاص من المسؤولية عن معاناة المواطنين؛ فقد طالت التهم الجاهزة كبار التجار الذين لم يسبق لهم العمل في القطاع الحكومي، وقد جمعوا أموالهم من عرق جبينهم بعيدًا عن الهبات الحكومية. فهناك اعتقاد على نطاق واسع بأنَّ هذه الثروات ما كان لها أن تتحق دون تسهيلات مخالِفة للقوانين، كالحصول على المناقصات الحكومية من تحت الطاولة مثلًا!!

لا شك أن مثل تلك العادات الاجتماعية التي أفرزت لنا أجيالًا متعاقبة من المثرثرين والنمَّامين الذين لا يرون محاسن الآخرين؛ بل يحلو لهم النقد واغتياب الناس والتركيز على عيوب ونواقص من يتولى المسؤولية في ميدان العمل.   

وفي الختام.. يجب التأكيد هنا على ما قاله الإمام الشافعي، بأنه لا أحد في هذا الكون الرحب يسلم من ذم النَّاس ونقدهم؛ بل وحتى أنبياء الله المعصومين من الخطأ والخطايا، قد طالهم القدح والتشكيك، فكلام النمَّامين يُصنَّف هنا مثل "الصخور إما أن تحملها على ظهرك فينكسر، أو تبني بها برجًا تحت أقدامك فتعلو وتنتصر".

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري