انهيار القيم عاملٌ لسقوط الأمم

 

د. قاسم بن محمد الصالحي

 

الحياة العصرية تجد نفسها في موقف صعب لأنها لا تلائم الفطرة، فقد تولّدت من خيالات الاكتشافات العلمية، وشهوات الناس، وأوهامهم، ونظرياتهم، ورغباتهم، فهوت الإنسانية عندما نسي البشر الفضائل، وأصبحوا على قلب يميل إلى الخفة والمرح والاسترسال بالشهوات.

وعلى الرغم من أن حياتنا أنشئت بمجهوداتنا إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا؛ حيث إن الإنسان الحديث فقد إنسانيته، بسبب شيوع أفكار غير إنسانية ساهمت في انهيار القيم.

نذكر في هذا المقام أن المشهد أو الفعل الذي يسقط من أعيننا في حياتنا المعاصرة يأتي سقوطه بعد مراحل من الصدمة؛ والدهشة والاستنكار والاحتقار ومحاولات فاشلة لتبرير الاختيار، كذلك هو الشأن فيما يسقط من القلب فإنه يلي مراحل من الحب والحلم الجميل والإحساس بالضياع والندم ومحاولات فاشلة لإحياء مشاعر ماتت.

غير أنَّ سقوط الذاكرة يبدأ بعد مراحل من التذكر والحنين، وبعد معارك مريرة مع النسيان ناتجة عن الرغبة في التمسك بأطياف، أحداث انتهت، ولأنَّ الذاكرة كالطريق تلتقط معظم الأشياء في الحياة فهي آخر مراحل السقوط كونه لا يبقى في القلب، ولا يبقى في العين.

والذكريات أنواع وألوان، فمنها ما يرغب المجتمع البشري في طمسه ونسيانه، ومنها ما يعتبره جزءًا من كيانه، فتحرص المجموعة البشرية على استقائه، وتستطيب استعادة قراءة صفحاته، والتأمل في مجرياته.

والتأمل هنا يحملنا على البحث في حصيلة مراحل وحقب الحياة ومحاسبة النفس البشرية، ولو بعد حين، كما أنها فرصة للمساءلة والتفكير في جدوى وجود الإنسان في هذه الدنيا، وفي مصير المجتمعات، والأقوام، والإمبراطوريات، والدول.

ولعل أهم ما تشعر الإنسانية به، هو أنَّ وجود الإنسان لا يقبل التعدد؛ فالإنسان برز إلى الدنيا وهي في غنى عنه، ولكن ليس بملكه أن يلغي وجوده منها، ولو كان بدوره غنيًا عن هذا الوجود ومثقلا به، فإذا ما كتب له أن يكون، فلا سبيل له إلا أن يكون كما كتب له، إنها سنة الحياة البشرية، وهي ليست مأساة، وليست ملهاة، وإن لم يكن الوجود نعمة كله، فإنَّ عدمه لا يساوي شيئًا، وعندما خلق الله عز وجل الإنسان طلب منه أن يؤدي واجبات وجوده، التي تتمثل في تسليم المخلوق بإرادة خالقه، وهداه النجدين، إما أن يسلك طريق الخير أو طريق الشر.

ولئن كانت البشرية قد خرجت من طور الحيوانية البهيمية إلى طور الإنسانية، لم تخرج خروجًا نهائيًا من معركة التنازع، فقد جاءت إلى درجة الإنسانية وجلبت معها غرائز البهيمية ونبضاتها، ولم يرتق الإنسان إلى درجة أن يتطهر من هذه النبضات البهيمية بتاتًا، بحيث تبرد حدة تنازعه، فهو قد جاء إلى دائرة الإنسانية بأطماعه وأثرته وحبه لنفسه، لذلك كثيراً ما يستصعب الرضوخ للحق، أو قد يشكّل عليه الحق والباطل، ففي الإنسان إذن ردة إلى الشر كما فيه نزعة الخير، وكلما تطهر من أدران الحيوانية صفت شخصيته وشفَّت، فإذا وقعت عليه أشعة الفضيلة ألقت أدران حيوانيته، فبقدر طهارة النفس البشرية من أدران البهيمية يسطع نور الفضيلة.

لا شك أنَّ التلوث العقدي يؤدي إلى تلوث الحياة إذ سلامتها تكمن في اتباع المنهج الأقوم الذي دعا إلى التمسك بمبادئ الأخلاق، ولا جدل أن كل مخالفة لأوامر الدين تعتبر مخالفة دينية وأخلاقية في الوقت نفسه.

ومن المعلوم أن القيم الأخلاقية التي جاءت بها الشرائع السماوية ثابتة لا تتغير ولا تتبدل مادامت السماوات والأرض فالخير والشر، والحق والباطل ما يزال في مفهومه الأصيل منذ أنزل الله الكتب وأرسل الرسل، ولن يصبح الحق باطلًا والباطل حقًا، ولن يغير الزمن في حركته وتطوره من ثبات القيم والأخلاق الإنسانية لأنها في مواجهة الفطرة التي لا تتغير.

وقد تابع الإنسان مسيرة بناء الأمم والإمبراطوريات والدول، ومرت عبر مسيرتها على غرار حياة الإنسان والكائنات الحية الأخرى بمرحلة النشوء، النضوج، الانحلال، والأفول، وهذه المراحل حالة واقعة لجميع الأمم والإمبراطوريات والدول عبر التاريخ القديم والحديث رغم التفاوت في المراحل الزمنية واختلاف التفاصيل.

إن هذه المساهمة البسيطة، والتي هي- عزيزي القارئ- بحاجة إلى مساهمات واسعة وتحليلية عميقة بغية إتاحة فرصة إطلاع المثقفين وعامة الناس أن ما يجري من أحداث في واقعنا الحالي والتحكم واحتكام القوة والمال في فرض الهيمنة والإرادة خارج إطار قوانين العقلانية والعدالة الإنسانية، هي زائلة وإن استمرت لحين طال أو قصر من الزمن.

فقد كنت مثل سائر أولئك الذين كُتب لهم أن يوجدوا وأن يولدوا على الفطرة، ونشأت في واحة من الطمأنينة الثابتة بين مجتمع معتقداته مطلقة، وحياته سعيدة، وفي عيش رغد، واليوم انتهت بي الأيام مع حياة عولمة جارفة وعالم متوحش، قوضت مقومات الحياة التي ألفت، فأُخُرجتُ من جنة محيط القيم والأخلاق إلى معترك لم أكن مهيأ لخوضه، وأقحمت المجتمعات كل المجتمعات في صراع لا تتحكم في عوامله، ولا تتبين نتائجه فاضطرت إلى خوض عالم الفوضى وأوارها.

قد يرى البعض أنَّ عنوان تحدّيات مرحلتنا الزمنية التي نعيشها يجب أن يتمحور حول مسألة الديمقراطية في مواجهة الاستبداد، لكن رغم صحّة هذا الأمر من الناحية المبدئية، فإنَّ أساس المُشكلة في واقعنا الراهن هو تراجع مفاهيم وقيم مجتمعية تعثّر تطبيقها، ولعلّ ما حدث ويحدث في انحلال القيم والأخلاق مثال حي على سقوط الأمم والإمبراطوريات والدول، واستشهد هنا بأبيات من الشعر لرئيس مركز "قيم" الشاعر العُماني الدكتور صالح بن محمد الفهدي؛ حيث يقول:

هم الناس بالأخلاق إن هم تحلوا

بأحسنها، سادوا المكارم والدول

 

وإن هم أطاحوها، أخلوا بعزّهم

فلا شيء كالأخلاق للعز من بدل

 

إذا ضيع الأقوام من ركنهم أقم

لهم مأتما يبكي على الحادث الجلل

 

فالأخلاق أساس الحياة، هي عنوان للشعوب، وقد حثت جميع الأديان عليها ونادى بها المصلحون لكونها وسيلة للمعاملة بين الناس، وإن ذهبت الأخلاق فسد المجتمع من الخوف والرعب والأفعال السيئة، فللأخلاق دور كبير في تغير المجتمعات إلى الأفضل، وفي تعامل الناس مع بعضهم البعض.

تعليق عبر الفيس بوك