أصدقائي السَحَرة!

 

فاطمة اليماني

"من لا عقل له، لا ضرر منه". مكسيم جوركي.

***

كانت تتساءلُ عن تناقض أمّها وهي تتعوذ بالله من شرّ الشيطان الرجيم، في نفس اللحظة التي تستحضر فيها قصص السحر والسحرة، وتستدعي صور الوحوش المُخيفة، بقرونهم وأنيابهم المفترسة، في حكايات ما قبل النوم؛ الممتدّة من حلول الظلام وحتّى يطحن النعاسُ أبناءها، ويغطّون في نومٍ عميق!

ورغم معركة الخوف التي كانت تخوضها في ذهنها؛ وهي تصغي إلى الأحداث المرعبة؛ إلّا أنّها تنام، وتشخر، وتكمل ما تبقّى من أحداث لم تكتمل في أحلامها!

وكبقية شقيقاتها، تستيقظ باكرًا، وتتجاذب معهن الجوارب والأحذية؛ ثم تذهب إلى المدرسة حاملة حقيبة مليئة بدفاتر تحتوي على واجبات لم تُكْتَب بعد! متحمّسة لتلقّف المزيد من قصص السحرة والعفاريت بين الحصّة والأخرى! وفي وقت الفسحة وهي تتناول الخبز والجبن وتشرب شراب (أهلًا) الحار؛ والذي امتزج بأوردتها، وأصبح جزءًا من هويّتها كطالبة من الجيل العتيق!

كبرت آمنة، وعاشت حياتها الحافلة المُشّبعة بقصص السحر التي قاومتها؛ حتّى أصبحت لا تخاف منها! أو بالأحرى -تدّعي- أنّها لا تخاف منها!

ووصلت إلى قناعة مضادّة للفكرة، فلا سحرة، ولا عفاريت، ولا شيء حقيقي ممّا ذُكِر!

والشيء الحقيقي الوحيد هو مرور الأيام، وجلوسها على كرسي أسود في قاعة تصحيح اختبارات الثاني عشر للمرّة الأخيرة، والذي بدا مُشابِهًا في تلك اللحظة بالذّات للكرسي الذي كانت تجلس عليه عندما كانت طالبة في الصف الأول الابتدائي. الكرسي الخشبي المتهالك، والمثبّت بمسامير حادّة بارزة!

وغالبا ما كان يعلق طرف حجابها أو طرف ردائها برأس المسمار الحاد؛ فيمزّقه؛ لتعود إلى المنزل خائفة من رؤية أمّها للثوب الممزق؛ فتسرع لتغيّر ملابسها؛ حتّى لا تكتشف والدتها الأمر إلّا في المساء أثناء الغسيل بعد أنْ تكون منهكة بسبب أعمال المنزل، ونميمة الجارات، ولا طاقة لها على اقتفاء سبب الخدوش والشقوق والبقع؛ فجميعها قابل للإصلاح والترقيع والتنظيف.

 وتكتفي بنظرة حائرة كأنّها تريد أنْ تقول لها شيئًا، ولا تسعفها ذاكرتها على التلفّظ به، فتنادي عليها باسم شقيقتها:

  • سامية... سامية.

فلا تردّ على أمّها؛ لأنّها أخطأت في الاسم! ولا تستجيب لها إلّا عندما تلمح خيال المكنسة الملوّحة لها، فتذهب إليها مستاءة:

  • اسمي آمنة!

فتطلب أمّها منها إحضار علبة عدّة الخياطة، واصفة لها مكان العلبة التي قد تكون على الطاولة أو في الدرج أو فوق الثلاجة!

 فتعود خاوية اليدين، عاجزة عن استنطاق ذاكرة أمّها؛ التي ربما قد تكون دسّتها خلف سطل الأرز الكبير خوفًا من عبث الصغار بها!

فتحاول أمّها السيطرة على أعصابها؛ لأنّ ابنتها عجزت عن اكتشاف مكان العلبة؛ فتطلب منها الذهاب إلى النوم، مخطئة في اسمها للمرّة الثانية:

  • إلى الفراش حالًا... يا سامية!
  • سامية؟! كما تريدين يا زمزم!

فتلقي عليها أمّها فردة حذاء تأديبًا لها!

 إلّا أنّها كانت تعرف أقصى مسافة يمكن أنْ يصل إليها الحذاء! لذلك تتمكن من تفادي الضربة؛ بالإسراع إلى غرفتها، وإغلاق الباب في وجه فردة الحذاء الذي يسقط قرب الباب معجبًا بدوره في رسم علاقة الأمّ بابنتها، ووضع النقاط على الحروف فيما يخصّ التربية!

بينما يأخذ والدها فراشه إلى المجلس مبتعدًا عن زوجته التي لا يعرف سبب تذكّرها لخطيبته السابقة زمزم! مزعوجًا من غيرتها المستمرة التي لا تنتهي لأحداث عفا عليها الزمن!

كاستمرار تأثير القصص على خيال ابنته التي تذهب إلى المدرسة حاملة جنيّة صغيرة في حقيبتها! فتفتح الحقيبة بحذر! رغم امتعاض معلمتها المصرية التي ارتفع ضغطها وهي تراقب حركة آمنة البطيئة وتأخّرها في إخراج الكتاب؛ لتسألها غاضبة:

  • بتهبّبي إيه؟!

فتخرج الكتاب متمنيّة أنْ يأتي ساحر ويخلّصهم من هذه المعلمة الجبّارة!

لكنّ السحرة لا يأتون إلّا في حكايات أمّها قبل النوم، حين تجعلهم متنفّسًا لرغباتها!

فعندما تريد من بناتها تنظيف المكان؛ تدّعي أنّ أحد السحرة كان يبحث عن مكانٍ يحميه من حرّ القيظ؛ فطاف جميع بيوت الحارة؛ ولم يستقّر إلّا في أكثر البيوت قذارة!

فتسرع هي وشقيقاتها لجمع القاذورات، وتنظيف المكان خوفًا من الساحر المفتّش!

وعندما تريد أنْ يكفّ أحد أطفالها عن البكاء؛ كانت تقول لهم بأنّ ساحرًا كان يطير! فسمع بكاء طفلٍ صغير؛ فوثب عليه؛ وانتزعه من حضن أمّه!

فتساءل الأطفال بصوتٍ منخفض:

  • هل سيأتي الآن؟
  • يتبع الأصوات العالية فقط!

لتحدّق آمنة في وجه أمّها متسائلة:

  • أنتِ قلتِ بأنّ الساحر يختطف أيّ ابن يصرخ؟ لكن أين يأخذه؟ ماذا يفعل به؟
  • ربما يأكله! ربما يجعله عبدًا! يربطه تحت شجرة! أو يطلقه يهيم في الصحراء! وفي الأماكن البعيدة الموحشة!
  • بدون مدارس؟!

لم ترغب أمّها في الاستمرار بالردّ على أسئلتها؛ فالعشاء على النار، وصغيرها هدأ وصمت، وآمنة لا تكفّ عن طرح الأسئلة!

 ولم يحدث أنّ مرّت عليها أيّ قصّة مرور الكرام، فهي تسأل عن أدّق التفاصيل، وتنبش بين الكلمات، وتشعر الأمّ بأنّها متورطة في الإجابة عن أحداث لقصص سمعتها عن أمّها عن جدّتها عن جدّة جدّتها!

ويومًا ما استأذنت أمّها لمرافقة خالتها إلى دكّان جدّها في سوق الحارة القديم المُطّل على البحر. وسألت خالتها عند وصولهما إلى السوق؛ عن مكان ممر السحرة المظلم؟ فأشارت خالتها إليه:

  •  هذا هو الممر الذي يمدّ السحرة فيه حبلّا خَفِيًّا؛ فمن يعبر الممر يتعثّر به؛ ويلتقطه السحرة!
  • لنجرب؟!

فجذبتها خالتها من يدها، متذّكرة كلام شقيقتها عندما عرفت بأنّها سترافقها إلى السوق:

  • انتبهي إلى هذه المجنونة!

انتهت جولة السوق، وعادت آمنة إلى أمّها متشوّقة لسماع حكاية جديدة قبل النوم؛ وظلّت هادئة إلى أنْ وصلت الأم إلى وصف بطلة الحكاية؛ فهي أميرة جميلة، شعرها طويل حريري لامع، عيونها خضراء كالزمّرد، بشرتها بيضاء كاللؤلؤ، فسألتها:

  • مِنْ حارتنا؟ وبهذا الجمال؟

فضجّت شقيقاتها معترضات على تطفّلها الذي يفسد جو القصص، فطالبتها أمّها بالصمت لتكمل الحكاية؛ لكنّها ابتعدت لتتأمل ملامحها في المرآة، فوجدت بشرة قمحية، وعيون سوداء قاتمة، وشعر منكوش، وقالت ساخرة من شكلها:

  • لن يسحرني أحد!

كتمت والدتها ضحكتها خوفًا من خدش مشاعرها! فلا مانع لديها من خدش عقول بناتها، وأولادها بقصص السحر والعفاريت المرعبة، لكنّ موضوع المشاعر أمر مختلف!

 لذلك أكملت قصّتها، ووصلت إلى نهايتها الجميلة؛ وهي أنّ الأمير قتل الساحر، وأنقذ الأميرة، واستولى على كنوزه، واشترى مزرعتين، وبقرتين! فقالت معترضة:

  • ألّا توجد نهايات مختلفة؟!

فوثبت شقيقاتها عليها، وكتمن فمها؛ ونجحن في إسكاتها!

 ونامت كلّ واحدة منهن، وهي تحلم بأنّها تزوجت أميرًا، وأصبحت أميرة، وتعيش في قصر، ولديها مزرعتين، وبقرتين!

ومع مرور العمر؛ استمرّت شقيقاتها في سرد قصص أمّهن لأبنائهن؛ بينما سردت قصصها على طريقتها، وتحوّلت الأميرات إلى موظفات مَدِيونَات، والقصور إلى ملحق بغرفتين وصالة ضيّقة! والمزرعة إلى أرض جرداء بلا خدمات، والبقرتان، إلى سيارتين بالأقساط!

 وشاخ السحرة! وتوّقفوا عن الطيران، وعن دورهم في إخافة الأطفال بالطرق على النوافذ والأبواب!

 وأصبحوا أصدقاءها الطيبين الذين يشربون القهوة معها، وفي خيالها فقط!