د. خالد بن حمد الغيلاني
khalidalgailni@gmail.com
@Khalidalgailani
بعد غياب، ها أنا ذا أعود لمقالات "شرق وغرب"، أعود إليها لكثرة الأحداث إن جاز تسميتها حدثًا، ولربما ترقى لتكون حوادثَ؛ ذلك لأنها تشغل الناس، وتجذب انتباه مجتمعنا العماني، هذا المجتمع النقي الذي يجب أن تُشحذ كل الهمم، وتُسخَّر كل الطاقات ليبقى كما هو نقيًّا متماسكًا مُتعاضدا، يشد أفراده عَضُد بعضهم البعض.
أعود لهذه المقالات، والتي يتطلَّب مُقتضى الحال أن أطرق فيها أكثر من باب، مُسلِّطا الضوء على أمر أراه جديرا بالحديث عنه، ليس فقط لأنه يعني فئة واسعة من أبناء المجتمع، وإنما للفت انتباه كل المجتمع له؛ لا سيما أصحاب القرار، والمعنيين بتعديل مسارات يجب تعديلها.
وأول باب أطرقه باب وزارة التربية والتعليم، أساس العمل التربوي والقيمي في المجتمع؛ هذه الوزارة المعنية قبل التعليم بتهذيب أبناء المجتمع وتوجيههم الوجهة الصحيحة التي تتطلبها منظومة القيم، وأكد عليها ديننا الإسلامي الحنيف، وعادات أهل عُمان الراسخة، وشدَّد عليها مولانا السلطان في معظم لقاءات جلالته السامية بالمشائخ الكرام من كل المحافظات. كما نصَّ عليها نظامنا الأساسي الذي أولى القيم أهمية كبيرة خاصة في المبادئ الاجتماعية والثقافية التي تقوم عليها سياسة سلطنة عمان وتتعامل وفقها مع الداخل والخارج.
وفي ظل ما نشهده من تسارع في مواقع التواصل الاجتماعي، وتسابق من مختلفها لجذب انتباه الفئة العمرية المدرسية، وسهولة الولوج إليها، وإشباع رغبات الكثيرين بحجة زيادة المتابعين والمهتمين، وسعي العديد مِمَّن يؤرق مضجعهم تمسكنا بقيمنا، وحرصنا على عاداتنا وتقاليدنا، فإنه لم يعد من المناسب تبني المسلك التقليدي في تعزيز القيم والتصدي لكل فكر منحرف هدَّام، وتشربيها في مناهج مواد التربية الإسلامية والدراسات الاجتماعية على الخصوص، وغيرها من المواد على العموم، بل أصبح الأمر يتطلب -وبإلحاح شديد- إفراد المنظومة القيمية الهادفة للتصدي وبحزم لكل ما من شأنه زعزعة الفكر القيمي الأخلاقي، إفرادها ببرامج مُقنَّنة وواضحة تحدد الأهداف والأدوار، ويتم العمل عليها كل فيما يخصه، كما يجب وبشدة صناعة قدوات عمانية في إطار وطني متكامل وليس في ظل سعي محدود القدرة، محصور الأهداف؛ من خلال سعي خجول من بعض المدارس من هنا وهناك.
لقد آن الأوان ليجد تعديل المسار القيمي طريقه الصحيح، وليتم تعديل كثير من المسارات الحالية، قبل فوات الآوان، وقبل أن يقام على قوم مأتمًا وعويلًا إن أصيبوا في أخلاقهم فالبدار البدار.
والباب الثاني الذي يجب طرقه وبشدة، طرقًا يُستشعر ضجيجه، ويستطيع سماعه كل ذي رأي سديد، وحضور واضح: باب وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار؛ خاصًّا بالطَّرْقِ المعنيين فيها بمتابعة مؤسسات التعليم العالي الخاصة؛ هذه المؤسسات التي يجب وجوبا لا مجال فيه للتساهل، ولا مناص منه لعذر أو تكاسل، هذه المؤسسات التي تضج بثقافات متعددة، وقناعات في عدد منها لا تتفق مع قيمنا المجتمعية، وأهدافنا الوطنية، ودور التعليم العالي في ضخ المجتمع بشباب ليسوا فقط مؤهلين للقيام بمهام وظائفهم؛ وإنما هم كذلك قدوات قادمة للمجتمع، جيل سيكون في موضع المُربِّي، جيل مُعتَمَد عليه في رفد الوطن بأبناء كرام بَرَرة، جيل تُسند إليه المهام الوطنية في أن يكون الشباب العماني حيث يرُتجى منهم ويعول عليهم.
إنَّ ما ينتشر من سلوكيات غير مرغوبة، وتصرفات غير مقبولة في حرم هذه الجامعات والكليات أمام ناظر الكثير، وتجاوز لحشمة اللباس، وطبيعة العلاقة بين الزميل والزميلة، والتطرُّف في هذه العلاقات، وتفشي قيم بعيدة كل البُعد عن الدين مرتكزًا، والعرف مسلكًا، والغيرة على الحرمات نهجًا إسلاميًا عربيًا عمانيًا عريقًا.
إنَّ محاولة التبرير المستمر من هذه المؤسسات لتجاوز عدد لا يُستهان به من طلابها، وتركيزها في بناء مقرراتها على التحصيل العلمي فحسب، دون إدخال مواد دراسية تعتني بالطالب وتعينه على مواجهة التحديات، وتساعده على بناء منظومة القيم لديه، رغم أن كفايات التعليم العمانية أكدت على ذلك ونصت على أن يكتسب الطالب مهارات تعزز لديه الولاء والانتماء والحفاظ على السمت العماني الأصيل، والتمسك بالأخلاق؛ فالتمدن والتحضر والسعي للمستقبل، كل ذلك لا يتعارض بأي شكل من الأشكال مع التمسك بالأصول، وتعزيز القيم.
إنَّ تركيز عدد غير بسيط من مؤسسات التعليم العالي الخاصة على الربح والكسب، وتوفير ما يرغب به الطلاب (ما يرغبون به) لهو في حقيقة الأمر فيه ما فيه من المحاذير، وفيه ما فيه من التجاوز للنظم واللوائح التي لو رُوعيت ونُفذت ووجَدت متابعة مستمرة لكانت حصنا منيعا أمام أي مسلك شاذ مرفوض.
لقد أصبح الوقت مُلزِما بضرورة إدخال مقررات ملزمة لجميع الجامعات والكليات الخاصة تتصدى لكل القضايا وتطرُق بابها بالحجة والإقناع، ليكتسب الشباب العماني الجامعي مهارات التعامل مع هذه القضايا والتصدي للضار المنحرف منها، مع أهمية تعزيز المقرَّرات التي تتحدث عن عُمان كدولة للمؤسسات، تؤطر لمستقبل رائد وتستشرف التنمية المستدامة واقتصاد المعرفة.
أمَّا الباب الثالث الذي أطرقه هو ذات الباب الأول؛ وهو باب وزارة التربية والتعليم، التي أصدرت تعميمًا ملزمًا للمدارس والطلاب بضرورة البقاء بعد امتحانات نهاية الفصل في المدارس، بحجة التعلم، مهددة بتطبيق لائحة شؤون الطلاب على غير الملتزمين بهذا القرار المستغرب، وهو سابقة في غير محلها، ولا يُرتجى منها أي نفع وفائدة.
لن نمضي بعيدًا إذا ما زلنا نتَّخذ قرارًا كمثل هذا في قاعة اجتماعات مُغلقة بعيدًا عن رأي أصحاب العلاقة والمعنيين بالتنفيذ، لم يَعُد يُقبل ونحن نسعى نحو رؤية عمانية ننشد من خلالها تعليما ابتكاريا، أن يتخذ أصحاب القرار أمرًا لا يكون فيه لذوي العلاقة من العاملين في الميدان التربوي رأيًا أو مشورة.
هذا القرار الذي تمَّ اتخاذه يكفيه خللًا أن يصحبُه التهديد بتطبيق لائحة شؤون الطلاب، ذلك أنه لو كان مفيدًا مقبولًا لبادر الجميع للحث عليه، وتأكيد العمل به.
كيف لطالب أنهى امتحانه أنْ يستمر في مدرسته وهو لديه امتحان في اليوم التالي؟ ألا يستحق راحة قصيرة؟ ألا يستحق سُكُون النفس والبال ليبدأ الاستعداد لامتحان جديد؟ ثم ألم ينتهِ المنهج؟ ألم ينتهِ المعلمون من مراجعة دروسهم وشحذ همم طلابهم؟!
ربما نصدر قرارًا لا نحيط بكل جوانبه، ولكن أنْ نصر عليه بالتهديد والوعيد، فهذا أمر يُجَانِبه الصواب!
ونأمل من وزارة التربية والتعليم العودة عن مثل هذا القرار؛ فالعود عنه خير من المضي فيه، ولعل وعسى.
حفظ الله تعالى وطننا عُمان وسلطاننا المعظم وأبناء عُمان الكرام.