يا فؤادًا مصغيًا

 

هند الحمدانية

تفترش رمل الشاطئ، تدفن قدميك تباعًا في تربته الرطبة، ثم تأخذ نفسًا عميقًا يشق رئتيك باحثًا عن رحابة صدرك، عيناك مغمضتان كقفل مندوسٍ قديم على مقلتيك، أنفاسك تحاول الهدوء وضربات قلبك تستعد لاستقبال شروق الفجر على شاطئ يومٍ جديد، تبدأ جوقة الفجر سيمفونيتها الفطرية التي تتناغم فيها أنغام شقشقة العصافير الهادئة بصريرها المتعالي الممزوج ببحة صوتٍ غليظٍ لطائرٍ يُغردُ خارج سربه، وأنت ما زلت هناك تنتظر المشهد الأول لمسرحيةِ يومك المجهول، وما زلت تغرس أصابعك العشرة في أحضان رملة شاطئك المالحة، كل شيء فيك بدء يلين ويستسلم استجابةً لهذه الحالة الكونية من الخضوع والاسترخاء.

شيءٌ واحد فقط لم يلبِ هذا النداء، شيءٌ واحد لم يَمتَثِل لهذا الخنوع، إنهما أذناك، أجل أذناك اللتان ما زالتا تتحسسان صفير الريح العابر فوق الأمواج، ما زالتا تترقبان صوت تلاطمها بصلابة صخور شاطئك المنجذب في لحظة مد، أذناك اللتان تستقبلان الحركات والسكنات، تستقبلان الهجس والهمس، تفتحان طبلتيهما للهواء والماء، ولوشوشة البعيد قبل القريب، ولكل مخلوق قد يَصدُر منه حِس.

إنك تستمع بشكل رائع لنداء الفجر، بل تصغي جيدا جدا لحديث البحر، إنك تصغي لصوت الريح دون مقاطعة، تصغي من أجل أن تَفهَم، تصغي بدون نوايا مُسبقة في محاولة التبرير أو خلق فرصة للرد، إنك تصغي لجميع الأصوات المفهومة والمبهمة وتتقبلها كأرض خصبة تُرحب بكل ما يلقى فيها وتحتضنه، إنك تستقبل الأصوات بصمت وبدون إرسال أي صوت منك، إنك تُطرِق السمع بأذنيك وتصغي بفؤادك فيميل منك القلب.

فهل أنت مصغٍ حقًا في حياتك؟ وهل تجيد مهارة الإنصات لمن حولك؟ وهل تفتح قلبك قبل أذُنَيك وتحاول أن تَفهم قبل أن تُفهَم؟ وهل تملك المقدرة على كبحِ جماحِ رغباتك في إثبات وجهة نظرك، وخلق مساحة واسعة من الإنصات للشخص المتحدث والماثل أمامك؟ هل أنت مستعد لتقديم الميل الواسع من قلبك تجاه حديثه وتجاه نظرته وتجاه مخاوفه فتتعاطف معه بالشكل الكافي لتطمئن روحه؟ ثم هل أنت من الصابرين على كتم حديث أنفسهم والصابرين عند معاشرة الخلق والصابرين على تجريحهم وأذاهم؟ كما جاء عن ابن عمر-رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)، فهل أنت من الصابرين الذين يحبهم الله في قوله تعالى: "والله يحب الصابرين"؟

الاستماع سهل جدًا وغالبًا أنت لست مخيرًا فيه تعبر الأصوات فيه بدون اختيار، لكن الإنصات هبة ونعمة من الله ورغبة وقرار، قد ترتقي بصاحبها في سلالم القلوب وتفتح له الأبواب المؤصدة وتجعله موطنًا لكل الأهل والأصحاب والزملاء والعابرين وأبناء السبيل، الإصغاء لغة أخرى لا ينطق فيها المصغي بالكلمات وإنما ينطق بنظرات عينيه وبصدره المفتوح والمنشرح للمتحدث أمامه، الإصغاء هي لغة الاستقبال التام مهما كان نوع الكلام، الإصغاء هو حسن الضيافة وبيان معنى الإكرام، أكرم الآخر بصمتك وافتح له جوارحك وأنصت له مستجيبًا لحروفه التي تسابق كلماته ولمشاعره التي تخالج عبراته، وأنخ له جانبك ربما يجد عندك حاجته من التفهم والتعاطف وتجد عنده منزلة عالية وصلت إليها بصمتك وحسن إصغائك.

تعليق عبر الفيس بوك