"موازنة 2023".. وإعادة صناعة التفاؤل

 

د. عبدالله باحجاج

ما زالت الموازنة العامة للدولة لعام 2023، حتى الآن مشروعَ موازنة، فلم تُعتمد من لدن عاهل البلاد- حفظه الله ورعاه- وهي في طور النقاشات الديمقراطية وفق الموجهات الدستورية (النظام الأساسي للدولة)، وهي نقاشات سرية داخل مجلسي الشورى والدولة، لكن، على أي أسس ومبادئ تُجرى المُناقشات؟

لن يختلف معنا أحدٌ في أنَّ العنوان الأساسي الذي ينبغي أن يتصدر الموازنة ومناقشاتها، هو "إعادة صناعة التفاؤل" لدواعيه الشمولية (السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية)، وهناك عدة محددات موضوعية سياسية ومالية حاكمة لإلزامية التفاؤل الذي ينبغي أن تعبر عنه الموازنة الجديدة، أبرزها:

** توجيهات سامية في لقاء صلالة لمجلس الوزراء عشية العيد الوطني الـ52، بضرورة استكمال المشاريع التنموية في الخطة العاشرة (2021- 2025) واستكمال كل مبادرات التشغيل والبرنامج الوطني للتشغيل، فكيف ستنفذ في موازنة 2023؟

هنا تحمل وزارتا المالية والاقتصاد مسؤولية بلورتها في مبادرات مالية واقتصادية واضحة وشفافة حتى تصل إلى الرأي العام، لدواعي إعادة صناعة التفاؤل، فقد سئمنا من برامج التشاؤم، والتصريحات المُستفزة غير المدروسة التي تعمِّق التشاؤم، وينبغي أن تؤكد المناقشات الديمقراطية في مجلسي الدولة والشورى على مسألة تضمينها في الموازنة، وتناقش آليات تنفيذها، وفق السياقات الزمنية السياسية للتوجيهات السامية، فالزمن هنا يتلاقى مع تحديات داخلية، والسياسة هنا قد تدخلت لصناعة إعادة التفاؤل من خلال تلكم التوجيهات السامية.

كما إنِّه يتعين جدولة تنفيذ المشاريع التنموية للخطة العاشرة ضمن ما تبقى فيها من خُطط سنوية حتى يتم بلورة التوجيهات السامية في إطار آجالها الزمنية، فهل تناقش داخل مجلسي الدولة والشورى من هذا المنظور العملي؟

** طبيعة المرحلة السياسية الإقليمية والدولية ومؤشرات اختراقاتها للمجتمعات من بوابات الحُريات والحقوق، مما يصبح انتقالنا من التشاؤم إلى التفاؤل ضرورة وطنية ملحة.

** الارتفاع المتواصل لأسعار النفط، والتوقعات باستمراره للسنوات المقبلة، والقناعة المجمع عليها الآن بعدم انتهاء عصر النفط على الأقل لثلاثين سنة مُقبلة (قد تناولناه في مقال سابق)، وهذا محدد آخر لصناعة عودة التفاؤل، عبر التركيز على الزيادة في النفقات الرأسمالية، لكن مسارها ينبغي أن يكون في مشاريع جديدة وتمس القطاع الخاص المحلي، ولا تقتصر على استكمال المشاريع القائمة التي لا تولد فرص عمل جديدة، ولا تحريك عجلة الاقتصاد التي نراهن عليها في صناعة إعادة التفاؤل.

** الفوائض المالية الكبيرة الناتجة عن تحسن الإيرادات غير النفطية والنفطية معًا، وقد أصبحت غير النفطية تشكل نسبة مئوية متعاظمة في موازنة الدولة في ظل أداء مالي جيد يتم الكشف عنه شهريًا، وهذا يصنع للوطن خبرات عمانية أنضجتها الأزمة المالية الأخيرة، وعليها الآن الانفتاح نحو شمولية الأبعاد للاستقرار في البلاد؛ إذ إنَّ هذا الاستقرار يحمل 3 أوجه قائمة على قدم المساواة، وهي: سياسية واجتماعية واقتصادية، دون المساس بسياسات ثابتة مثل خفض المديونية، لكن وفق ديناميكية المرونة ولي الجمود الذي تتطلبه التوقعات المستقبلية لأسعار النفط، وزيادة الإيرادات غير النفطية.

ونخرج من تلكم المحددات الحاكمة لموازنة عام 2023، بأننا في مرحلة عنوانها: "الإنفاق المدروس، والاستقرار في الاقتصاد، والتنمية الاجتماعية، وفرص العمل، وتحسين مستويات معيشة المواطنين.. إلخ"، من أجل إعادة صناعة الأمل، لذلك، فالسياسات المالية ليست وحدها اللاعب الأساسي في السياسة الداخلية، فكل ما اتُخذ أو سيتخذه كل مسؤول داخل وزارته، له تأثيره السلبي أو الإيجابي على مرحلة صناعة التشاؤم خلال المرحلة السابقة، وينبغي أن يكون له نفس التأثير في إعادة صناعة التفاؤل. والتفاؤل لا غيره يصلح للمرحلة الوطنية الجديدة، فما سيُواجه بلادنا لا يمكن مواجهته بالسيكولوجيات المتشائمة، وإنما المتفائلة، وهذا استهداف ينبغي أن يؤسس في ذهنيات كل الفاعلين الحكوميين والعموميين، وماذا ينبغي أيضًا أن يعني ذلك في موازنة عام 2023؟

يعني أن القضية لم تعد في زيادة مخصصات المالية لفئة الضمان الاجتماعي، ولا في دعم الفئات الأكثر تضررًا من خطة التوازن المالي، فالمفهوم يتسع اجتماعيًا، ولن يقتصر على من دخله 900 ريال، فكيف بأقل، وإنما في فتح ملف كل ما اتُخذ من إجراءات منذ يناير 2020 حتى الآن، ليس على الصعيد المالي والاقتصادي فحسب، وإنما كل ما يمس جوهر معيشة المواطن ومستقبله؛ فكل الفاعلين مارسوا الراديكالية في توجهاتهم وقراراتهم وقوانينهم في زمن قصير جدًا، ودون تنسيق فيما بينهم، بعضها لدواعي الأزمة المالية- وهذا محل تقدير- والأخرى لوعي نخبها المحفز للإنتاج المجرد، أي دون ربطها بحاملتها الاجتماعية، ودون التفكير في تأثيرها السيكولوجي والحقوقي للمواطنين في ظل السياسات المالية الخانقة التي كانت تفرضها الأزمة المالية وجائحة كورونا.

وهناك قائمة بالقضايا التي تتحتم إعادة مراجعتها لصناعة إعادة التفاؤل، وسنركز هنا على 3 قضايا فقط، وهي: قضية الحد الأدنى للأجور عند 325 ريالًا، وقضية مشاركة شركات توظيف خاصة المرتبات الشهرية لمدرسين وأكاديميين عمانيين في كليات التقنية، وكذلك استمرار عمل مجموعة كبيرة من شبابنا في شركات حكومية وأخرى عمومية بعقود محددة زمنيًا (العقود المؤقتة سابقًا)، وقد اطلعنا على حالات 200 شاب في شركة واحدة من مجموع شركات قد أصبح التوظيف المقيد بزمن محدد، نهجها الجديد.

وتلكم بوابات أساسية لصناعة إعادة التفاؤل إذا ما فُتحت بصورة متزامنة مع تفعيل مبادرات البرنامج الوطني للتشغيل، كما هي التوجيهات السامية، ولو تكون على صعيد كل محافظة بإشراك مؤسسة المحافظين، فستكون ناجحة؛ لأنها ستحتوي البعد الإقليمي، وهذا من أساسيات صناعة إعادة التفاؤل.

وصناعة إعادة التفاؤل، كما نراها، لا تُبنى على ظرفيات مستجدة حتى لا تُثقل ضريبة إعادته بثمن كبير من موازنة الدولة في حالة المستجدات، وإنما يُبنى الآن على أساس تأسيس اقتصاد عُماني جديد مُتحرر من النفط، والاقتصاد الأخضر نموذجًا، فهو نفط العالم الجديد؛ لذلك تلتقي الآن كل الشروط المادية الراهنة والمستقبلية، المؤقتة والمستدامة، لعودة قطار التفاؤل لسكته الطبيعية، وهذه القراءة نقدمها لإثراء نقاشات "موازنة 2023".