أيام تعدنا وأيام نعدها!

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

"الأخطاء هي دروس في الحكمة؛ فلا يمكن أن تغير الماضي.. لكن ما زال المستقبل تحت سيطرتك" هيودج وايت.

------

قبل أيام كنت في مشوار لمنطقة بعيدة، بالطبع على طريق بري، وفي الكويت أي منطقة تبعد أكثر من 30 كيلومترًا؛ فهي بعيدة بمقاييس أهل الكويت، وأثناء الطريق توقفت عند محطة للتزود بالوقود، عندها التقيت صدفة بسبب هذا التوقف بالمحطة بصديق قديم جدًا (هل إذا كان عمر المعرفة عشرين سنة يعتبر حينها الصديق قديما جدا؟)، وكان لقاءً مُؤثرًا، رغم قصر وقته الذي لم يستغرق دقائق معدودة، لكنه لقاءٌ أيفظ ذاكرة غارقة في سبات عميق منذ عشرين سنة.

هذا الصديق كان يعمل بنفس العمل الحر التي كنت أعمل به منذ أكثر من عقدين من الزمن، وكان التنافس بيننا حادا جدا، بل وصل الأمر لتعدي حدود المنافسة بأمور غير مشروعة بالنسبة للمنافسة القوية، وبالطبع لم أكن أيضا مثاليا فقد كان التضارب متكافئا، وصولات وجولات، وأتذكر هنا قوله تعالى: "وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي" (سورة يوسف:53).

الواقع أنني توقفت وخرجت من هذا العمل الحُر، وكعادتي عندما أترك أي عمل أترك كل ما يتعلق به بصلة، وأسدل الستار على تفاصيله، وعلى طريقة أهل البادية: "استروا على ما واجهتم"، كمقدمة للرحيل عن هذا الجو والعمل، وبالفعل اتخذت لنفسي مسارا آخر مختلفا تمامًا ولا يمت بالمسار الأول بصلة، ولا شك نسيت أوإن شئت سمها تناسيت كل ما مضى، ولم أعد أعرف أو أتابع تلك الأجواء السابقة والتي أشغلتني كثيرا لكنني تعلمت منها الكثير الكثير، فقد كانت مدرسة لكل شيء وأي شيء، وحصلت خلال سنواتها الطوال مواقف كثيرة جدًا، وما أزال أتذكرها تمامًا تستحق تدوينها والتوثيق، على الأقل كسيرة ذاتية، لكن لأنَّ المجالس أمانات وليس كل ما يعرف يقال، فقد تركت هذا التفكير، والباب الذي يأتي بالريح إغلاقه أفضل، فأمور الناس ليست بضاعة للعرض، ولست مخولًا بالحديث عن أي إنسان دون موافقته، على الأقل أخلاقيًا.

لذلك لما صادفت هذا الصديق أو المنافس في محطة الوقود، استيقظت الذاكرة لتلك السنوات الماضية والتي مضت كلمح من البرق، وجدته وقد تبدلت أحواله للأفضل، وأصبح يعمل في عدة مجالات كما أسر لي، وقتها قلت له ضاحكا كيف تقول لي عن أحوالك وأنا منافسك، ضحكت ضحكة عالية وقال كنت وهذا فعل ماضٍ يا أبا فلان، والآن أنت يمكن تكون أحد عملائي.

افترقنا بعد تبادل أرقام التواصل، بعد حديث قصير لكنه ذو شجون، واتفقنا على الالتقاء قريبًا بمكتبه بوسط العاصمة، لكني وطوال الطريق وأنا أفكر بما جرى بتلك الأيام، وكيف كانت العلاقة الحادة، وكيف كنت أنظر له، وهو كيف ينظر لي؛ إذ كان بيننا "ما صنع الحداد"، والأدهى عندما ألتقينا بعد أكثر من 15 سنة، وكيف فرحنا باللقاء، يا سبحان الله هل كنَّا نكره بعضنا أو فقط منافسة، الأكيد أنه كان منافسا شريفا، لكن لا أنا ولا هو وضعنا حدا للجدل أو التنافر، وما أقصر الحياة، وما أصغر ذواتنا؟!

تذكرت عدة مواقف بالتنافس، أتذكرها وأضحك، منها تكسير الأسعار والبيع بأقل من سعر التكلفة، وكذلك التنافس في استقطاب العمالة، والله كنَّا نتعامل وكأننا أكبر تجار المدينة والله العالم بالحال.

مضت الأيام والأكيد لكل يوم خبرة في الحياة، وأيام تعدنا وأيام نعدها، ويبقى الأمل ما بقيت الحياة، الشيء الجميل أن أحوالنا تبدلت للأفضل هو وأنا، وهذا هو الأهم، أنا غيرت الطريق وسلكت طريقًا آخر أرى أني توفقت فيه حتى الآن، وهوكذلك كما أرى توفق كثيرًا، والله يوفق الجميع.

وأفكر كثيرًا في محطة الوقود وكيف جمعت شتات الذكرى، وجمعت اثنين من أكثر الناس تضادًا وبشكل لا يصدق، من تنافس حاد، إلى لقاء مفعم بالوفاء والكلمات الطيبة، في الحياة الدنيا توقع غير المتوقع، الأهم أن تترك على الأقل شعرة كشعرة معاوية بينك وبين الناس.

الأكثر قراءة