في ذلك المطعم الصغير جدًا

 

أنيسة الهوتية

جلست تلك الصغيرة على كرسيها الصغير المُطِل على الشارع المزدحم بالنَّاس في ذلك المطعم الذي تعودت أن تتناول فيه طعام العشاء المُبكِر كل مساء مع والديها اللذين يبدوان وكأنهما جديها، وكانت تضع حقيبتها الوردية المزخرفة بالترتر الملون على شكل "يونيكورن" ولكن بدون قرن ذهبي،  وبأذنين قصيرتين!

كان الأب كل مساء يطلب وجبة عشاء إسكندر وثم يختمها ببقلاوة الفستق وآيسكريم الفانيلا وأكواب كثيرة من الشاي الأحمر أو "السليماني" كعادة الأتراك، وفي ذلك المساء حاولت أن أعد عدد أكواب الشاي التي شربها تعبت عندما وصلت إلى الرقم اثني عشر فتوقفت عن العد.

أما الأم فكانت تطلب كل مرة شيئا مختلفا عن المرة السابقة وكأنها تريد تجربة "المينيو" كله، مساء بعد مساء ولكنني لم أفهم تكرارهم لذات المطعم يوميًا رغم أنهم في مدينة تعج بالمطاعم المختلفة وفيها ما لذ وطاب!

أما الطفلة الصغيرة فقد كانت تهمس لأمها دائمًا بشيء في أذنها ثم تضع يدها على فمها وهي تقهقه قهقهة الأطفال التي تقتل عذوبتها أصحاب القلوب الرحيمة، أما الأم فلم أسمع صوتها قط ولكنني كنت أعرف أنها تضحك مع ابنتها عندما كان كتفاها يهتزان.

تركت طاولتي ونظرت إلى الصغيرة وهي تتناول القشطة مع الفراولة والكرامل والإيسكريم كعادتها بعد تناول عشائها، ولأول مرة وبعد أربع ليالٍ ابتسمت لي ابتسامة احتضنتني بحب وحنان فخرجت من ذلك المطعم ورأيتها تنظر إليَّ من النافذة العريضة التي تجلس بجانبها.

وأنا أمشي إلى الفندق القريب من المطعم كنت أفكر، هل هم كذلك يسكنون في فندق قريب لأجل ذلك يأتون مساءً لتناول وجبة العشاء هنا مثلما أنا أفعل!

لكنني هنا لمهمة عمل ولا أرغب في التسكع في الأسواق لأنني أكون مرهقة مساء فأسعى إلى أقرب مكان هادئ صغير أتناول فيه العشاء ثم أتوجه إلى غرفتي حتى أنهي تقارير العمل وأبعثها ثم أبدأ يوما جديدا في الغد بدون متبقيات من الأمس! أما هم فعلى مايبدو ليس لديهم ارتباط كارتباطي!

كان من الممكن أن يأخذوا ابنتهم إلى مكان أجمل وأفضل فإن تكرار تناول العشاء في هذا المكان كئيب للأطفال! وبينما أمشي شعرت بأن هناك من يُراقبني فوقفت والتفت ورائي فإذا بي أراها تلك الصغيرة من أمام باب المطعم تنظر إليَّ ثم عندما رأتني وقفت لوحت لي بكفها الصغير، ففعلت بالمثل ثم دخلت إلى  غرفتي وبدأت عملي، وفي المساء التالي في نفس المطعم افتقدت تلك العائلة الصغيرة التي كانت تتواجد بنفس وقت تواجدي. وعندما سألت النادل عنهم أخبرني بأن لا أحد كان يأتي إلى هنا بتلك المواصفات التي أخبرته عنها!! وبأنَّ هذه مواصفات عائلة توفيت في حادثة دهس سيارة أمام المطعم منذ 5 أعوام تقريبًا، والطفلة تلك كانت يتيمة تبنتها تلك الأسرة عندما وجدوها أمام المطعم.

فتعجبت، وسألته أمام المطعم!

قال نعم، فإن الرجل هو مالك المطعم وبعد وفاته أصبح عائد هذا المطعم وقفًا للفقراء والأيتام كما أوصى هو قبل وفاته بيوم.

نظرت إلى عينيه وأنا لا أكاد أصدق ما أسمع، فسألته: وهل كانت وجبته المفضلة هي إسكندر؟

قال نعم، وبقلاوة الفستق والكثير من الشاي.