أُكذوبة "هذا ما يريدهُ الجمهور"!

 

د. صالح الفهدي

يسوِّقُ بعض من يتعاطون مع الإِعلام بأفكارهم في مختلف قوالبه ووسائله جُملة: "هذا ما يريده الجمهور"؛ ليفسحوا لأنفسهم فضاءً واسعًا يستطيعون من خلاله إلغاء ما يشاؤون، رافعين شعار "هذا ما يريده الجمهور"!

ولو أنَّ الرسالة الإِعلامية مبنيَّة على الارتقاءِ بالذائقة الجمعية لكانت الجملة مسوِّغًا معقولًا، ومسوِّقًا مقبولًا، ولكنَّ الجملة تستخدمُ في كلِّ عملِ غَثٍّ لإِضفاء القبول والشرعية الفنية، بل ولفرض فكرةٍ شاذَّةٍ أو ذات أهدافٍ معيَّنة على الوعي والذائقة..!

قال لي مسؤولٌ رفيعٌ في الإِعلام: "إنَّ النَّاس لا تريدُ القيم، وإنَّما تريدُ الفرفشة"، فقلتُ له: "هل تملكُ إحصائيةً على ما تقول"، فسكتْ..! وإذا كان ثمَّة إحصائية فإِنَّ العبرة ليست بالأَرقام، وإنَّما بالمستوى التعليمي والثقافي للشرائح المستهدفة في الإحصاء؛ إذ من المؤسف أن أرقام المشاهدات أصبحت هي مقياس النجاح عند البعض، فكلما ازدادت أرقام المتابعات ظن التابعون المقلِّدون أن العمل متميِّز، وأن هذا ما "يريده الجمهور"، متغافلين أنَّ زيادة المشاهدات لها دوافعها وخوارزمياتها التي تسرِّعُ في ارتفاعِ أرقامها.

إذن فليكن العمل من الرداءة بمكان، فذلك لا يهم فنسبة المشاهدات العالية تجعل أصحابه فخورون بأنَّهم أنتجوا عملًا "يريده الجمهور"، أو أنهم في الحقيقة فرضوا على "الرأي العام" فكرة رديئة أو دخيلةً وسوَّقوها على أن هذا ما يريده الناس، ونصبوا بذلك مصيدة وقع فيها السُذَّج الذي انطلت عليهم أكذوبة "هذا ما يريده الجمهور"..! وقد ينفصلون عما تؤمنُ به عقولهم وقلوبهم من منطلق الفكر، لينتجوا عملًا لا يؤمنون به في أعماقهم، ولكنهم يريدون من وراءه الشهرة، والمال، أو تسويق رسائلة مبتذلة في مضمونها لغرضٍ في أنفسهم.

إنَّ أُكذوبة "هذا ما يريده الجمهور" إنَّما تّقوَّلها أولئك الذين ينحدرون بالرسالة الإِعلامية المؤثرة في الناس فخرجت في قوالب أَسموها هم أنفسهم "فنًّا"و"أدبًا" حتى وإن كان المضمون سطحيًا ومبتذلًا، وهكذا انطلقت الأعمال السينمائية بما فيها من الإابتذال والتهتك، وعُرضت المسرحيات التجارية بما فيها من السَّب والتَّهكم، وانتجت الأغاني بما فيها من مشاهد التخنُّع والتفسُّخ، والكلمات الهابطة والأداء المتهتك، وغير ذلك من الأعمال المختلفة وكل ذلك بحجَّة "هذا ما يريده الجمهور"!

ولو أن كل من أنتجَ عملًا فنيًّا، ولديه رسالة لها قيمتها وهدفها فإننا نطرحُ عليه السؤال الآتي: هل عليك أنت أن تتبع ما "يريده الجمهور"؟ ومن هو هذا الجمهور؟ أم أنك تتبع ما يرتقي بذائقة الجمهور، ووعيه؟!

قال شخص لأحد منتجي عمل فني راقٍ: إنَّ عملك ليس قويًّا، فردَّ عليه: ما هي القوة من وجهة نظرك؟ قال: كثرة الاستماع، فردَّ له: قل لي ما نوع الناس الذين تخالطهم أنتَ لأقول لك إن كان كلامك صادقًا، أجاب: الشباب، فردَّ عليه: الشباب الذين تعتقد أنهم لا يستمعون لهكذا أعمال رأيناهم وهم يستمعون للعمل، أما أرقام المشاهدة فليست مقياسًا على الأفضلية أبدًا، وختم الأخير قوله: "القوة نسبية، ولا يمكنك أن تحكم على الإطلاق دون أن يكون لديك براهين وحجج".

ذات يوم وإبَّان إنتاجي لبرنامج "قيم"، قابلتُ شابًا في أحد المحال التجارية له قصَّة شعرٍ غريبة تشبهُ عُرف الديك، ويلبسُ ملابس غريبة، فتحدث معي قائلًا: إنني أُتابعُ برنامجك!! بيدَ أنَّ من يراه لا يُصدِّق أنَّ مثله يمكنُ أن يتابع برنامجًا للقيم..! ورأيتُ شبابًا في سنِّ المراهقة على البحر، فقال لي أحدهم إنه يتابعُ حساباتي على وسائل التواصل الاجتماعي وإنهم معجبون بالطرح، فقلتُ في نفسي "الحمد لله إن كان مثله يتابعني".

أما الذين لهم نواياهم للانحدار بذائقة الناس بحجة "هذا ما يريده الجمهور" فهم يصنعون وهمًا للناس هو أشبه بما ينصبه العنكبوت للإيقاع بفرائسه، وهم يعملون من أجل ذلك وفق خطةٍ متدرِّجة، يتبعهم الذين لا يعوون الفكرة من وراء هذا التوجه، شكلًا ومضمونًا، وهو توجُّهٌ فيه يختلطُ فيه العبث والخبث والسذاجة. ولا أُبعدُ الظنَّ في أن هؤلاءِ أنفسهم قد وقعوا في فخ العولمة التي تتقصَّدُ تذويب الهُويات تحت عنوان التقدم والعصرنة!

إنَّ أصحاب الرسالات القيِّمة هم الذين يرتقون بذائقة الجمهور، لا أولئك الذين يتبعون كل ناعق، وينجرفون وراء كلِّ بارق، هم الذين ينتشلون وعي الناس من أوحال السَّفاهة إلى قمم الوجاهة، وإلى مراقي الفطنة والنباهة، وهؤلاء عليهم واجبٌ في هذا العصر الذي امتلأ بالغثاثة حدَّ الغثيان، والتفاهةِ حدَّ التوهان. هؤلاء عليهم واجبٌ في أن يُسقطوا كذبة"هذا ما يُريده الجمهور" ويرفعوا بدلًا منها شعار "هذا ما يريده المنطق والذوق والوعي والأدب".