د. صالح الفهدي
حين شكرتُ أحد مدراء العموم في إحدى الجهات الخدمية على مصلحةٍ معيَّنة أجابني: "لم نفعل شيئًا غير الواجب، فنحن وُجدنا في هذه الأَماكن لخدمتكم"، فعلَّقتُ عليه قائلًا: "كم أتمنَّى أن يقول؛ بل يؤمن بذلك كل مسؤول، فهو لم يوجد في منصبه، ولا في وظيفته إلاَّ لخدمةِ النَّاس، وليس لأي شأنٍ آخر".
في سبعينيات القرن الماضي عقد السلطان قابوس بن سعيد- طيَّب الله ثراه- اجتماعًا مع كبار مسؤولي الدولة من مدنيين وعسكريين، وظهرت من ذلك اللقاء عباراتٌ عظيمةٌ عُلِّقت في أروقةِ الوزارات والجهات الحكومية، ومنها "إن الوظيفة تكليف ومسؤولية قبل أن تكون نفوذًا أو سُلطة"، كما رشح عن اللقاء هذا التوجيه الصريح: "وهناك أمر هام يجب على جميع المسؤولين في حكومتنا أن يجعلوه نصب أعينهم، ألا وهو أنهم جميعًا خدم لشعب هذا الوطن العزيز، وعليهم أن يؤدوا هذه الخدمة بكل إخلاص وأن يتجرَّدوا من جميع الأنانيات وأن تكون مصلحة الأمة قبل أي مصلحة شخصية، إذ إننا لن نقبل العذر ممن يتهاون في أداء واجبه المطلوب منه في خدمة هذا الوطن ومواطنيه".
إننا بحاجةٍ إلى "ثقافة تنظيمية" ذات أُسس واضحة، تطبَّق على أرضيَّة الواقع، ولا تكون مجرَّد كلمات أو شعارات، بل أن تكون مناهج عملية يؤمَّنُ لها تحقُّقها على الصعيد العملي، وتُلمس في قضاء الخدمات، وتطبيق القوانين، وإنجاز الأعمال، وإنهاء الإِجراءات، والتواصل مع الأطراف المختلفة.
الموظف أَيًّا كان ابتداءً من الوزير إلى أدنى الدرجات الوظيفية، لا بُد أن يؤمنَ بعقيدة "الثقافة التنظيمية" التي أصبح- وفقًا لها- قائمًا على خدمة الناس، وأن لا يكون ذلك مجرَّدَ تصريحاتٍ وأقوال لا تمتُّ إلى سلوكه العملي بصلةٍ ما.
وإذا كانت الوظيفة في جانبٍ منها تشريف لخدمة الوطن والشعب، فإنَّها تكليفٌ بأمانةٍ عظيمةٍ، هي تحت عينِ الله، وسعةِ رقابته: "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (التوبة: 105)، وهي في نطاقِ الحرص والتوجيهِ من رسوله الأكرم عليه أفضل الصلاة والسلام القائل في حديث رواه مسلم: «اللهم من ولِّي من أمر أمَّتي شيئًا فشقَّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به».
وإذ نحنُ مسلمون- ولله الفضلُ والمنَّة- فإِننا أولى الناس بتطبيق أُسس هذه المنهجية لإرساء أُسس ثقافة تنظيمية قائمة على الإِحسان والرفق والأمانة والإِخلاص، فنمثِّل ديننا على الصعيد العملي أفضل مما نمثِّلهُ في الشَّكليات والمظاهر التي لا تُغني شيئًا.
فما نفعُ موظفٍ أو مسؤول متديِّنٍ في ظاهره في حين أنَّهُ يعقِّدُ مصالح النَّاس، ويؤخر إنجازها، فلا يخرجُ من بين يديه مشروع إلا كما تُنتزَعُ الفريسة من بين فكَّي الأَسد؟!! قال لي أحدهم ونحن نناقشُ تعطيل المصالح، فتذاكرنا مديرًا بإحدى المصالح الخدمية: إن فلانًا على الرَّغم من تديِّنه الظاهر، فإنَّه يشقُّ على الناس قضاء مصالحهم، ويحشدُ كل سبب يعقيق إنجازها، دون أسباب يمكن أن يُعذرَ عليها..!
لو أن كل من يعمل على خدمةِ الناس قد آمن يقينًا بأنَّه وجد ليخدم الوطن والناس لرفقَ على الناس، ولحشد كل سبب من شأنه قضاء المصلحة وفق ما يسمحُ به القانون الذي يملكُ روحًا وليس مجرَّد بنودٍ جامدةٍ، باهتة.
لهذا تطولُ المعاملات، وتتأخر الإجراءات لأن الذي يقوم بالخدمة إمَّا أنه يملكُ شخصية في الأَساس تبغضُ التيسير وتكرهُ الرفق، وإما لأنه لا يملك الثقة في نفسه، فيخاف من أي إجراء يقوم به كي لا يُلام من قبل مسؤوليه، وإما لأنه يشعرُ باللذة وهو يمارس الامتهان والإِذلال لصاحب الحاجة الذي يترجَّاهُ أن يُسرع في إنهائها..!
نعم إنها كلمةُ مسؤولٍ حصيفٍ "وجدنا في هذه الأماكن لخدمتكم"، أدركَ معنى الوظيفة، وقيمها التي تقومُ عليها، وأن السُّمعة هي من يبقى لا الوظيفة ولا الكرسي بعد أمد، خلاصة الأمر أن الحكومة تحتاج – في جميعِ مرافقها ووحداتها - إلى تأسيس ثقافة تنظيمية قائمة على قيم واضحة تشِّكل شخصية الموظف الحكومي، وترسِّخ هذه القيم بمجموعة من البرامج، وتراقبها بمجموعةٍ من الوسائل حتى تضمن فاعليتها على أرضية الواقع.