على قَيْدِ الجنون!

 

فاطمة اليمانية

"لا يأتي المرضى النفسيون إلى العيادات؛ بل ضحاياهم".

****

صديقتي "المُكْتَئِبة"!

ها أنا ذا أخترعُ مصطلحاتي "النفسية" الخاصّة بي! مُعتقدًا أنّ ارتداء الزيّ الرسمي للأطباء يؤهلني للحصول على "شهادة ممارسة الطبّ النفسي" بعد أن قيّمتُ نفسي جيدا، وأدركتُ أنّ مستشفى الأمراض النفسية هي ساحتي المقبلة للعراكِ مع الحياة!

التي تشبه عراكي مع زميلي الذي انتشل فردة حذائي، وخبأها في السلًة؛ لأطبِقَ على عُنِقه؛ وليستنجد مستغيثا:

  • الحقوا بي! هذا المجنون سيقتلني؟

فهرع زملائي، لانتشاله من بين يديّ!

 

 

وقلتُ غاضبًا:

  • المجنون، هو الذي أكبر همّه الضحكِ على حساب وقتي.. لدي اختبار وجعلتني أهدر ربع ساعة في البحث عن حذائي! ماذا استفدت الآن؟!

فأخرَجَ فردة الحذاء، وارتديتها؛ لأسابق الوقت، والدماء تغلي في عروقي! ربما دهستُ قطّة؛ ربما لم أنتبه إلى قائد الدراجة الهوائية؛ فهوى على الأرض هو ودراجته؛ لكن كلمة مجنون وصلت إلى أعماق قلبي!

كما وصلت رسائله إلى عميد الجامعة؛ للوِشَايَةِ بي؛ ولأجد نفسي في مكتبه، وجهاً لوجه! مُتَحاشٍ نظراته المستنفرة من تحت نظارته العريضة! ودخان أنفه الطويل!

  • هل هذه تصرفات طالب طب؟!

فتبخّرت نصف ساعة من النقاش مع العميد؛ وتمّ تأجيل الاختبار! وطلب منّي التركيز على التدريب العملي في مستشفى الأمراض النفسية!

الذي وصلتُ إليه وأنا على كامل الاستعداد! مصافِحًا الطبيب؛ ومعرّفًا بنفسي:

  • مجنون يحاورُ مجانين!

لكنّه لم يرقُ له هذا الوصف، وقال لي:

  • إذا كانت هذه نظرتك؟! فلا داعي لهدرِ الوقت معهم!

اعتذرتُ له، وقطعتُ عهدا على نفسي أنْ أنتقي ألفاظي! وأضعُ في عين الاعتبار أنّ هذه الفئة تحتاجُ إلى من يشعرُ بها.

كان الحديث مع هذا الطبيب العبقري كفيلًا بنسف مفاهيم خاطئة عشّشت في أفكاري؛ لتتحول الساعة إلى سبع ساعات من الدهشة، وأنا أجوب ممرات المستشفى، واستكشف أقسامه، ومرافقه!

وبدأت التدريب مع أول حالة، وكانت لمريض تم إحضاره ملطّخاً بدمائه بعد اعتداء ابنه عليه بالضرب؛ لأنّه سئم من الاعتناء بمجنون!

فقال لي، وهو يصف عدد اللّكمات الّتي سدّدها له ابنه، عاجِزًا عن التعبير عن ألمه! وعن الإفصاح عن وجعه! مكتفٍ بنظرة باهتة تتقلّب بين السرور والأسى!

ثمّ رفع كمّه ليريني الكدمات، مبرّرا:

  • أراد الاستحواذ على بطاقة البنك؛ فاعترضتُ... وما ترى نتيجة اعتراضي! وقال لي: أنتَ مجنون! مجنون!

كدّت أبكي... لكنّني تمالكتُ نفسي!

ثمّ تساءل:

  • لماذا لا تحضرون ابني؟ لماذا لا يتقاسم معي جرعات الأدوية التي ستجبرونني على ابتلاعها؟ لماذا؟

نظرتُ إلى الطبيب نظرة استنجاد... فأتى، وجلس قريبًا منه... وسأله ماذا أكل هذا الصباح؟ فأخبره بأنّ والدته أيقظته في الصباح الباكر، وأكل حتى شبع، وأثناء حديثه ناوله الطبيب حبة (ليثيوم) فتناولها؛ وهو يسترسل في حديثه عن فطور أمّه!

  • أمّه المرحومة!  المتوّفاة وهو في سنّ العاشرة من عمره؟!

شاهد الطبيب دهشتي، وهو يذكر أمّه؛ وقال مازحًا:

  • تريد واحدة؟!

وكدّت أمدّ يدي؛ لأتناول حبّة (ليثيوم)... ويسري الدواء في عروقي؛ وأتناسى به... وجع الشوق للاحتواء... ولتناول فطور أمّي!

ثم شرح لي حالة المريض، وأوضح لي الفرق بين الخيال، وبين الواقع، وكيف تستطيع معرفة أنّ الكدمات، والضربات التي على المريض، بفعل فاعل، أو هو من تسبّب بها!

وبأنّ المريض يعبّر عن مشاعره المضطربة؛ ولا بد من ادّعاء التصديق! فكل ما لا يمكن تصديقه؛ يصبح واقعًا يعيش فيه المريض النفسي.. حتى ذلك المريض الذي ادّعى النبوة، وأخذ يقول:

  • أنا نبيّ الله!

فردّ عليه زميله الذي كان يعتقد بأنّه إله!

  • كاذب.. لم أُرسلك!

ودخلا في جدال وهلوسة، بين من يدّعي الألوهية! ومن يدّعي النبوة!

فغضب مدّعي النبوة؛ ودخل في نوبة هياجٍ نفسي، ووثب على الآخر الذي كذّبه؛ مُهدّدا بقتله؛ فتمكّن ممرّضان من إبعاده؛ وحقنه الطبيب حقنة (هالوبيريدول)، أمام أنظار الآخر الذي سخر منه:

  • ويدّعي بأنّه نبي!

تلاشَت جميع تلك الهلاوس؛ كما تلاشت رغبتي في مواصلة تدوين الملاحظات؛ حين طلب منّي الطبيب الذهاب معه؛ لمقابلة أحد المدمنين، الذي أتى راغبًا في العلاج من الإدمان!

كان رجلًا ستينيًّا ملأ الشيب شعره الناعم، كما ملأ الشحوب وجهه؛ رغم ابتسامته الصفراء؛ وهو يسلّم على الجميع، ويسأل عن أخبارهم، ويعرف أسماءهم واحدًا... واحدًا!

ويبدو أنّه صاحب هذا المكان؛ لكثرة زيارته له!

وظلّ محافظًا على ابتسامته، وهو يحكي للطبيب أسباب عودته للإدمان! رغم الوعود التي قطعها على نفسه، والعهود التي خطّها بقلمه في دفتر ملاحظات الطبيب الذي أخرجه له، وقال:

  • ألم تكتب لي وعدًا بألا تتعاطى الخمر؟!
  • استعجلتُ نعيم الجنّة يا دكتور؟!

فقال له معاتِبًا:

  • شتّان بين خمر الجنّة، وخمر الدنيا!

 ليرّد المدمن مشاكسًا:

  • سَكرنا ولم نشربْ من الخمرِ جرعة*** ولكنْ أحاديثَ الغرامِ هي الخمرُ!

فقال له الطبيب:

  • هاتِ ما لديكَ من أحاديث الغرام!

فحكى لنا كيفَ أنّه تاب إلى الله، وحافظ على الصلاة. ويومًا ما ذهب للسهرِ مع أصدقائه، وعاد إلى المنزل محمّر العينين؛ فاعتقدت زوجته بأنّه رجع للشرّب ثانية؛ فأطلقت لسانها بالسبّ، واللعنّ، رغم أنّه أقسم لها باللهِ العليّ العظيم، وبرأسِها، وبرأسِ أمّها!

لكنّها أصرّت على تكذيبه؛ فخرج من المنزل قاصدًا أصدقاءَه الطيبين! ومن تلك الليلة أعاد علاقته بحياته السابقة... وبحذافيرها؟!

كما أعاد الطبيب كتابة برنامج جديد لعلاجه من الإدمان، والإقامة في المستشفى لمدّة شهرين، وتحديد جلسات العلاج، وجرعات الأدوية!

رافق المدمن الممرض للذهاب إلى الجناح الذي سيقيم فيه؛ مؤكّدا للطبيب بأنّه ضحية زوجته! وبأنّه لن يغادر المستشفى ما دامت في المنزل!

ضحك الطبيب، وطلب منّي مرافقته؛ لزيارة مرضى الاكتئاب؛ وأشار إليكِ؛ لأشاهدَ حالةً من حالاتِ المرض عن قرب! كنتِ ممدّدة على السرير، وجامدة، وغطيّت جسدك بغطاء السرير الأبيض؛ متخذة وضعية الموتى! للدرجة التي شككتُ فيها بأنّك فعلا ميّته!

اقترب الطبيب مخاطبًا إياكِ بهدوء:

  • دعاء.

فرفعتِ رأسكِ ببطء شديد، وأبعدت الغطاء عنكِ...

كانت هالة الحزن التي تشّع من ملامحك؛ تنعكس على كلّ من يراكِ... وكنتِ بالكادِ تجيبين على أسئلةِ الطبيب، والذي بدت رصاصاتٍ تخترقُ قلبَكِ المحطّم... رغم ذلك حاولتِ قذف الكلمات بصعوبة بالغةٍ، وقلتِ بأنّك عشتِ كثيرًا بعد وفاة ابنك، وأشرتِ تجاهي بأنّه كان يشبهني، نفس ملامحي، وفي مثل عمري! وبأنّ الحياة برحيله أصبحت موحشة، فما الدّاعي للاستمرار في الحياة؟

غادرنا الغرفة، وفي الممر سألت الطبيب، عن ابنها:

  • ما سبب وفاته؟
  • وهل كان لها ابن من الأساس؟

فعرفتُ أنّها حُرِمت من الزواج، فنسَجت لنفسها عالمًا وهميًّا خاصًّا بها، وبأنّها تزوجت، وأنجبت -في خيالها- ثم ازدادت حالتها سوءً بعد أنْ خرجت يومًا ما من غرفتها تصرخ:

  • ابني مات... ابني قُتِل!

فتبرع أهلها بإحضارها إلى المستشفى، خوفًا منها، وخوفًا عليها! وخوفًا من كلام الناس!

عدتُ إلى غرفتي بعد يومٍ حافل؛ مقتنع تمامًا بأنّ الناس مختلفون في إدراكهم، في أحزانهم، في خلق عوالمهم الخاصّة بهم، وبأنّ معظم المرضى النفسيين؛ ما هم إلّا ضحايا الأهل، والجهل!