لستِ وحدَك!

 

فاطمة اليمانية

 

"أحبّ التفكير فيمَ يمكن أن يكون هناك!" هنري إيان كوسيك.

***

 

وصلتني رسائل مستفسرة عن سبب انقطاعي عن الكتابة والنشر، من أشخاص لا تربطني بهم سابق معرفة، كانت تلك الأسئلة البسيطة ذات تأثير عميق جدّا؛ لأنّها وصلت في الوقت المناسب... وقت الشعور بالانطفاء! وكيف أنّ الإنسان قد يهرب من واقعٍ عاش يحاربه؛ ليحيى في واقعٍ جديد يناطحه!

وورد في إحدى الرسائل:

  • مهما كانت الظروف؛ تأكّدي بأنّكِ لستِ وحدك!

شكرت مرسلها امتنانًا، فهو من الفئة القليلة المرهفة الإحساس، في عالم ماديّ تحكمه المصالح، وتقيده الأنانية المطلقة. ورغم كثرة مشاغله إلّا أنّه أرسل مرّةً أخرى معاتبا:

  • أين كتاباتكِ؟

بدت (أين؟) هذه المرّة، شبيهة بسؤال شرطي أوقفني يومًا ما:

  • أين رخصة القيادة؟

ليحرّر مخالفة بابتسامة معاتبة! ابتسامة تشبه تماما ابتسامتي عندما كنتُ معلمة، واكتشفتُ قصاصات صغيرة كُتِبت بدّقة متناهية في المخبأ السرّي المكشوف أمام رغبتي في اقتناص طالبة تغشّ!

والسبب في ذلك يومها يعود لمديرة المدرسة التي جمعتنا، وقالت لنا:

  • تعتقدُ بعضُ الطالبات بأنّ المعلمات عاجزات عن كشفِ أساليبهن الخبيثة في الغشّ!

فأثار هذا الكلام رغبة التحدّي! وأنْ نثبت للطالبات قدرتنا على انتشال الشعرة من العجين! والإبرة من كومة قشّ! وكشفِ أيّ طالبة تسوّل لها نفسها الغشّ في الامتحان المقدّس!

أنا والشرطي نشبه بعضنا في تلك اللحظة التي كان مُتَعجبًا فيها من جرأتي على القيادة من غير ارتداء حزام الأمان، ممسكة الهاتف، بيد! وباليد الأخرى كوب كرك!

كنتُ أشبه مهرّجات السرك! فالسّيارة تتراقص يمينا ويسارًا...وشجّعني على ذلك خلّو شارع الخدمات من السيّارات! وانشغالي بمكالمة تافهة! غصصتُ بآخر كلمة تلفظّتُ بها بعدما انتبهت إلى سيارة الشرطة؛ لأقف جانب الطريق؛ ولينزل الشرطي كاتما ضحكة ساخرة:

  • تقودين السيّارة، وأنتِ تتحدثين في الهاتف! ولا ترتدين حزام الأمان! وتمسكين بكوب شاي!
  • أمر طارئ!

فقال منبّها:

  • لستِ وحدكِ في الشارع!

ثمّ أبلغني بأنّني ارتكبتُ ثلاث مخالفات! فقلتُ له مستاءة:

  • إذا حرّرت لي المخالفات؛ لن أسامح أيّ طالبة تغشّ في الامتحان!
  • بناتي لا يدرسن في صحار.

ثمّ نصحني باقتناء سماعة بلوتوث، فهي لا تزيد عن ريال واحد! ورغم أنّ الإشكالية ليست في السعر؛ بل في تذكر اقتناء سماعة بلوتوث! لأنّها آخر هموم امرأة مثلي! ولأكتشف أنّ أرخص سماعة بلوتوث في المركز التجاري، تزيد عن ستة ريالات! فأين تلك السمّاعة ذات الريال الواحد التّي ذكرها لي!

  • لا يهمّ!

والأهمّ من ذلك أنّني لمحتُ سمّاعة شبيهة في أذن طالبة في قاعة الامتحانات؛ لأكتشف أنّ الهاتف في الدرج! وأنّها دخلت الامتحان بعد قراءة المعوّذات، والأدعية، وكرّرت الآية الكريمة في وجهي:

  • "فأغشيناهم فهم لا يبصرون".
  • لستُ من كفّار قريش!
  • سامحيني!

وتذكرت أنّ الشرطي لم يسامحني؛ لكنّني سامحتها؛ لشجاعتها! لأنّها تجرّأت على إدخال هاتف محمول! ووضع سماعة بلوتوث! وتحرير قصاصات صغيرة للغشّ!

فصادرتُ جميع الممنوعات، ووضعتها في خزانة الفصل، وطلبتُ منها موافاتي بعد الاختبار، إلّا أنّها غادرت القاعة قبل انتهاء الوقت، ثمّ عادت، وهمست في أذني:

  • هاتفي!
  • انتبهي...لستِ وحدكِ في المدرسة!

سلّمتها هاتفها، وسماعة البلوتوث! وناولتها قصاصات الغشّ! التي ألقتها في السّلة، وقالت ساخطة:

  • ساعة كاملة أكتبها، ولا سؤال... ولا سؤال إجابته فيها!

غادَرَت، وعدتُ لمراقبة آخر طالبة، والتي داهمها النعاس؛ فوضعت رأسها على الطاولة، ونامت! فهي لن تسلّم ورقة الاختبار؛ إلّا بعد انتهاء المدّة المحدّدة: ساعتين...ثلاث ساعات! وتساءلتُ لو تمّ تمديد الوقت! ماذا ستفعل؟!

  • تواصل رقادها!

قلتُ لها:

  • لستِ وحدكِ في القاعة!
  • ما دمتِ معي؛ فأنا مطمئنة!

ضحكتُ من دعابتها، وشاركتها التثاؤب...ودخلنا في سبات عميق! هي في رقادها، وأنا في هواجسي التي تفصلني عن الواقع؛ وأفقنا بعد سماع الجرس، ففتَحت عينيها مذعورة؛ لتتأكد بأنّ ما سمعته هو صوت الجرس فعلا! فأكّدتُ لها انتهاء الوقت، فمدّت ذراعيها، ثم فركت عينيها الحمراوين...وغادرت القاعة متذمرة؛ لأنّ الوقت لا يكفي!

  • للنوم!

كما لا يكفي لإجراء مكالمة عاتبة مع والدتي التي اتّصلت تسألني إذا أحضرتُ لها ما طلبته، رغم أنّي نسيت الأمر تماما! وبعد صولي للمنزل؛ طلبت من ابني أنّ يذكرني بمكالمة جدّته في المساء! ثمّة موضوع مهم! مهمّ جدّا!

  • إلى أيّ درجة؟!

لا أستطيع تحديد ذلك؛ فجميع المواضيع التي تتحدث عنها أمّي مهمّة، رغم بساطتها!

ورغم أنّ بيننا جينات مشتركة، إلّا أنّني من النوع الذي يبسط الأمور، ويهوّنها. ويوما ما وصلتني رسالة من هاتف صديقتي، تخبرني فيها؛ بأنّها مصابة بمرض عضال، فقلتُ لها:

  • شدّة وتزول!

وفي اليوم التالي، وصلتني رسالة تحمل نبأ وفاتها!

فقرّرت بعدها تهويل ما يستوجب تهويله، كما تفعل زميلتي التي كانت تذهب مسرعة للحصّة:

  • حصّة.. رنّ الجرس.. رنّ الجرس!

فتقف أمام باب الفصل؛ ولا تنتظر أكثر من ثانية؛ فتدخل، وتضع كتبها على الطاولة، وزميلتها ما زالت في الفصل لم تخرج بعد!

وتعود بعد انتهاء الحصّة إلى قاعة المعلّمات مستاءةً من تصرف بشع صدر من إحدى الطالبات؛ وتقول غاضبة:

  • تخيّلي! أشرح الدرس، وهي تبتسم!
  • سألتها: ماذا يضحكك؟ ولم ترد... طردتها؛ فوقفت خلف النافذة؛ تلّوح للطالبات، وتخرج لسانها لهنّ؛ فطلبت منها التوّجه معي إلى إدارة المدرسة!

واكتفيتُ بالتساؤل حول ردّة فعلها؛ لو عرفت بأنّي صفحتُ عن عشرات الطالبات اللّواتي مارسن الغشّ! وعن الهواتف المخبأة! وعن النوم! والابتسامة أبسط ما تكون؛ فمجرد أنْ تشاركنا الطالبة سبب ابتسامتها، تهدأ، وتعود للتركيز في الحصّة، ومتابعة الدرس!

أعادتني ذاكرتي إلى أيام الدراسة، حين كنّا نبتسمُ حَنَقًا، وضَجَرًا، من معلمة التربية الإسلامية التي كانت تحدّثنا عن عذاب القبر! ويوما ما استفَزّتها ابتسامتي؛ فاقتربت منّي، وضربت على طاولتي بقبضة يدها، وقالت:

  • تخيّلي أول ليلة لكِ في القبر!
  • الآن؟!
  • تخيّلي!
  • ستكون ليلة جميلة، سيأتي الملكان، وأجيبهما عن الأسئلة بطلاقة؛ وأنام لوحدي في قبر بارد هادئ! سيكون قبري غرفتي الخاصّة بي، ولن تدخل شقيقتي وتخرج دون إغلاق الباب!

فاستفزّها ردّي؛ وأدارت اسطوانتها الغاضبة:

  • اسمهما منكر ونكير.. يأتيان بصورة حسنة، أو قبيحة حسب أعمال صاحبها، ودخول القبر ليس سهلًا كما تظّنين! وما يدريك بأنّك ستجيبين على الأسئلة؟ وبأنّه سيكون فارغًا؟ لستِ وحدكِ في القبر، ستجدين أعمالك القبيحة، والثعبان الأقرع، و...الخ

لتسخر زميلاتي منّي:

  • حطب جهنم!
  • لن أكون لوحدي.

لا أحد باستطاعته أنْ يظلّ وحيدا بنسبة 100%... فهنالك الملائكة، والشياطين والرّماديّون الذين يسكنون قاع الأرض! ويأجوج ومأجوج الذين يحفرون يوميّا في السّد حتى يفتح لهم قرب السّاعة، وسكّان الفضاء الخارجي الذين يرسلون أطباقا طائرة؛ لتختطف البشر؛ لإجراء تجاربهم الفضائية عليهم!

وكم انتظرنا نزولهم عندما كنّا صغارًا! ورشّحنا أكثرنا ملائمة -حسب معاييرنا- للاختطاف؛ ولم يحدث أن اختطف أحدنا أيّ كائن فضائيّ! رغم إخلاصنا الشديد للفكرة، وانبهارنا بكلّ ما هو غامض، ومثير للخوف، والدهشة معا! وبأنّنا كعالم آدميّ لسنا وحدنا... ولن يحدث أبدا أنْ نكون لوحدنا!