من وحي «جائزة السلطان قابوس للثقافة» (1)

 

 

د. مجدي العفيفي

(1)

إذا كان الشخص يموت، والشخصية تبقى، بآثارها ومآثرها، فإن ما يبقى من السلطان قابوس بن سعيد، رحمه الله، الكثير من الشواهد، والعظيم من المشاهد، نستذكرها في هذه الأيام العمانية الخاصة، المضيئة من شجرة 18 نوفمبر، العيد الوطني المجيد، انطلاقا من أن حقنا القومي أن نفرح بكل تجربة عربية تضيف وتضفي، وأن من حقنا العربي أن نفرح بها ونعتز، في زمن الاهتزاز الحضاري وقد عز فيه الاعتزاز، وأن من حقنا الإنساني أن نفرح بصوت الذات العربية، وأن نطرح سوط جلد هذه الذات.

 

حقا، إن من الصعوبة بمكان، أن نحيط بعوالم شخصية هذا الرجل، إذ إنه كان سلطانا صاحب رسالة، وليس صاحب سلطة، عُماني الهوية، عربي التكوين، إسلامي الروح، عالمي الاتجاه، كوني النزعة، ذو منظومة فكرية يشكل الخطاب الثقافي منها مساحة لها وجودها، ولها امتدادها في نظرته للإنسان والعالم والكون.

 

أقول قولي هذا، وأنا في وهج الاحتفالية العمانية بجائزة السلطان قابوس للثقافة والآداب والفنون، التي تعد من أثمن الجوائز العربية والعالمية من الناحية المادية أيضًا، إذ يمنح الفائز وسام الاستحقاق للثقافة والعلوم والفنون والآداب ومبلغا ماليا قدره مائة ألف ريال عماني ( أي حوالي 6 ملايين ونصف المليون جنيه مصري) في نسخة الجائزة التقديرية (العربية والعمانية) ويمنح الفائز في دورتها المحلية وسام الاستحقاق للثقافة والعلوم والفنون والآداب، ومبلغا ماليا قدره خمسون ألف ريال عُماني.

 

(2)

 

هذه الجائزة الثمينة يتم منحها بالتناوب دوريًّا كل سنتين؛ إذ تتجادل بين كونها عربية عمانية عاما، وعمانية عاما، بمعنى أن تكون محلية في عام يتنافس فيها العُمانيون فقط، وتقديرية في عام آخر؛ يتنافس فيها العُمانيون إلى جانب إخوانهم العرب، وقد أُنشئت الجائزة في عام 2011، تقديرا من السلطان قابوس بن سعيد، للمثقفين والفنانين والأدباء العُمانيين والعرب، على إسهاماتهم الحضارية في تجديد الفكر والارتقاء بالوجدان الإنساني، ودعمًا منه لمجالات الثقافة والفن والآدب باعتبارها سبيلا لتعزيز التقدم الحضاري الإنسان.

 

وتأسيسا على ذلك تسعى الجائزة إلى الإسهام في حركة التطور العلمي والإثراء الفكري، وترسيخ عملية التراكم المعرفي، وغرس قيم الأصالة والتجديد لدى الأجيال الصاعدة؛ من خلال توفير بيئة خصبة قائمة على التنافس المعرفي والفكري. فتح أبواب التنافس في مجالات العلوم والمعرفة القائم على البحث والتجديد، وتكريم المثقفين والفنانين والأدباء على إسهاماتهم الحضارية في تجديد الفكر والارتقاء بالوجدان الإنساني، تأكيد المساهمة العُمانية ماضيًا وحاضرًا ومستقبلا؛ في رفد الحضارة الإنسانية بالمنجزات المادية والفكرية والمعرفية.

 

(3)

 

وقبل أيام أعلن مركز السُّلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم، أسماء الفائزين بالجائزة في دورتها التاسعة، وهي دورة ذات رحيق عماني هذا العام، وطبقا للأستاذ حبيب بن محمد الريامي الأمين العام للمركز، في المؤتمر الصحفي، عدد المتقدمين الذين استوفوا متطلبات الترشح على مجالات الجائزة 96 منافسًا ومنافسة منهم 11 في مجال تحقيق التراث العُماني و 12 في مجال الفرق المسرحية و73 في مجال المقالة، وأسفرت النتائج: في مجال تحقيق التراث العُماني عن فوز «حارث بن محمد البطاشي» عن كتابه «تمهيد قواعد الإيمان وتقييد شوارد مسائل الأحكام والأديان..للشيخ سعيد بن خلفان الخليلي» وفي مجال الفرق المسرحية فازت «فرقة الدن المسرحية» عن مسرحية «قرن الجارية» وحصلت الكاتبة «د. منى بنت حبراس السليمية» على الجائزة في مجال المقالة.

 

 (4)

 

تخبرنا ذاكرة الجائزة أن 25 مفكرا وكاتبا وأديبا وفنانا حصلوا عليها في فروعها المختلفة، فمن مصر .. د. جلال أمين (ﻓﺮع اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ) اﻟﻤﻮﺳﻴﻘﺎر أﻣﻴﺮ ﻋﺒﺪاﻟﻤﺠﻴﺪ (اﻟﻤﻮﺳﻴﻘﻰ) الفنان علي الحجار (الطرب العربي)، ومن السعودية الناقد سعد البازعي (اﻵداب) ومن المغرب د. ﻋﺒﺪاﻹﻟﻪ ﺑﻠﻘﺰﻳﺰ (قضايا اﻟﻔﻜﺮ اﻟﻤﻌﺎﺻﺮ) ومن تونس د.ﻋﺒﺪ اﻟﺴﻼم اﻟﻤﺴﺪ (دراﺳﺎت اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ) ود.ﻣﺤﻤﺪ اﻟُﻐّﺰي (أدب اﻟﻄﻔﻞ) ومن الجزائر د. ﻣﺤﻤﺪ ﺷﺮﻳﻔﻲ (اﻟﺨﻂ اﻟﻌﺮﺑﻲ) ومن العراق باسم فرات (أدب الرحلات)

 

ومن المبدعين العمانيين.. ﺳﻴﻒ اﻟﺮﺣﺒﻲ (اﻟﺸﻌﺮ اﻟﻔﺼﻴﺢ) ﻣﺤﻤﻮد اﻟﺮﺣﺒﻲ (اﻟﻘﺼﺔ اﻟﻘﺼﻴﺮة) عيسى بن سالم الصبحي (الأفلام القصيرة) حمد بن عبد الله بن سعيد السكيتي (التراث الثقافي غير المادي) ﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﺳﻨﺎن اﻟﻐﻴﺜﻲ (اﻟﺘﺮﺟﻤﺔ) ﺟﻮﺧﺔ ﺑﻨﺖ ﻣﺤﻤﺪ اﻟﺤﺎرﺛﻴﺔ (اﻟﺮواﻳﺔ) ﻋﻤﺎد ﺑﻦ ﻣﺤﺴﻦ اﻟﺸﻨﻔﺮي (اﻟﺘﺄﻟﻴﻒ اﻟﻤﺴﺮﺣﻲ)أﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ اﻟﺸﻜﻴﻠﻲ (اﻟﺘﺼﻮﻳﺮ اﻟﻀﻮﺋﻲ) د. ﺳﻌﻴﺪ ﺑﻦ ﺳﻠﻴﻤﺎن اﻟﻈﻔﺮي (اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ) رﺷﻴﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﺮﺣﻤﻦ اﻟﺒﻠﻮﺷﻲ (اﻟﺮﺳﻢ واﻟﺘﺼﻮﻳﺮ اﻟﺰﻳﺘﻲ) د. ﻣﺤﺴﻦ ﺑﻦ ﺣﻤﻮد اﻟﻜﻨﺪي (اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ).

 

وقد حجبت الجائزة أربع مرات، في أعوام 2016 الفنون الشعبية العمانية/ 2017 التصميم المعماري/ 2018 الشعر الشعبي العماني /2019 دراسات في علم الاجتماع.

 

في هذا السياق- أقول من خلال تجربتي المتواصلة والمتأصلة في مسقط حوالي نصف القرن من الزمن الحي - أن فكر جلالة السلطان قابوس، كان ولا يزال، يتجلى بشفافية إنسانية، تلقي بأدبياتها على الإنسان والزمان والمكان، ليس فقط في عمان، بل تتجاوز الإطار القُطْري، لتمد وتمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، سواء كان الطرح في شكل رؤية ثقافية، أو مشروعا يسعى إلى تقديم مساهمة حضارية، أو مبادرة إنسانية في مجال من المجالات التي يؤثرها، وتتناغم مع ذاته، وتتناسق مع رؤاه، وتنسجم مع منظوره للثقافة بمعناها الإنساني العام، ودورها في تشكيل المجتمع، وحراسة قيمه وصيانتها، وتنوير شرائحه وصياغة ذوقها، بما تمثله من عملية رعاية للفكر والعقل، وإعداد مستمر للروح والوجدان.

 

 

 (5)

 

كان السلطان قابوس يرمز إلى ثلة من الرؤساء والحكام الذين تشغلهم المشروعات الثقافية والفكرية، على مستوى عالٍ وعلى درجة رفيعة من الأهمية، شأنها في ذلك شأن السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحضارية بشكل عام.، فالتنمية في منظوره متكاملة، بمعنى أنه إذا عرضت الاستراتيجية العمانية مشروعاتها لتنمية الموارد الطبيعية والبيئة الاقتصادية، فإنها تضع برامج مواكبة لتنمية القدرات البشرية ثقافيًا وعلميًا، وإذا اشتملت برامجها على تنمية البيئة الاجتماعية وعززت فيها أساليب الحياة الحديثة، فإنها تتحسب برامج الحفاظ على الثقافة القومية الأصيلة، وإذا هي شغلت نفسها باتجاهات الحداثة والمعاصرة، فإنها تنشغل أيضًا وبنفس القدر، بإشكاليات الأصل والأصالة، وتأسيسًا على ذلك، نجد في كل دعوة ثقافية أو مبادرة فكرية من جلالته، أصداء سياسية، وظلالا اقتصادية، وأبعادًا اجتماعية، وروحًا إنسانيًا يهيمن على قيمة التكاملية في الرؤية، للتحليق بالمجتمع تحليقًا يتسم بالتوازن.

 

في هذه المنظومة يتبدى الخيط الثقافي جليًا، يشد الخيوط الأخرى بعضها إلى بعض، ليحقق بها التوازي ويحكم بينها الانسجام، لتصبح المسألة الثقافية بمفهومها المادي وقيمها المعنوية، عملية أساسية وتأسيسية، وليس فقط تكميلية أو تجميلية، بل لم تكن قط واجهة اجتماعية، لكنها في نسيج الرؤية الثقافية، بما تتسم به من النظر إلى ما وراء الحدث، واستشراف الآتي على ضوء الآني، وتحييد العاطفة لتفسح الطريق إلى المعقول، ليضبط إيقاع المواقف، كما تدل الشواهد الماثلة والمشاهد الحاضرة ذات الوزن الإنساني الرفيع.

 

(6)

 

اتخذ جلالة السلطان من الثقافة مقومًا أساسيًا من مقومات الدولة العصرية، وجعل منها قوة فاعلة في دولة المؤسسات، ومنحها الجميل من ذائقته، وأعطاها الكثير من خططه وتخطيطه، حتى ليمكن القول إنه جعل من رؤيته مؤسسة ثقافية بذاتها، فيها التنظير الفكري المستمد من الواقع والمستمر معه بثوابته ومتغيراته، وفيها التثمين الموضوعي للمعارف على تمايز اتجاهاتها تكريمًا لروادها وتقديرًا لرموزها، وفيها جماليات الفنون على اختلاف نوعياتها من تشكيلية وتطبيقية وموسيقية وتصويرية ودرامية، وفيها إنسانية الآداب على تباين إبداعاتها صناعة وصياغة.

 

(7)

 

وتشغل قضية التراث والحداثة، أو الأصالة والمعاصرة، أو الاتباع والإبداع، مساحة واسعة من الخطاب السلطاني، ولم يكن هذا الانشغال مجرد تنظير فحسب، بل هو فعل ثقافي حضاري متعدد المشاهد ومتنوع الشواهد، وهل يتم الفعل إلا بالفكر؟ وهل تقوى مصداقيات الفكر إلا بمطابقتها للتصورات؟ ولقد تمثل بعض من هذا الفعل في كون سلطنة عمان هي الدولة العربية الوحيدة التي تخصص وزارة للتراث، وأنها تؤثر أن يكون مسمى التراث قبل مسمى الثقافة، الأمر الذي لفت كثيرًا من أنظار الباحثين والمفكرين، وساعد بدوره كثيرًا في تحريك التفاعل الخلاق بين الإنسان العماني وتاريخه، وبين حاضره وحضارته، وبين المآثر الحديثة والمأثورات الفولكلورية «فالازدهار العمراني - البنايات والعمائر والطرق العلوية - كل ذلك تطور محمود، لكن شأنه شأن المدنية الحديثة، كلاهما يمكن أن يكون ذا أثر محدود في حضارة الإنسان، ومسيرة تطوره، ما لم يستطع أن يصل بين أدوات هذا العصر وتراثه الثقافي».

 

(8)

 

رحم الله السلطان قابوس، رحمة واسعة

 

 والأمل في المد والامتداد، والإضافة والإضفاء، لتظل النهضة العمانية متجددة ومتطورة ومتوهجة في تجليات المشهد العماني الراهن الذي يشكله السلطان هيثم بن طارق آل سعيد سلطان عمان.

 

وسلام على عمان بمن فيها وما فيها..