د. عبدالله باحجاج
صُعق مُجتمعنا مُؤخرًا مما كشفته مُمرضة أول أمراض مُعدية بالمستشفى السلطاني، وكذلك دكتور في أحد مستشفياتنا الحكومية من قضايا لا أخلاقية تمس فئة الطفولة في مراحلها التأسيسية، وتشكل مساسًا خطيرًا بجوهر أهداف وزارة التربية والتعليم.
لا نتحدث هنا عن ظاهرة؛ لأننا لا نملك إحصائيات، وإنما سنضعها في سياق حالات مُقلقة من قِبَل بعض الأبناء، تُضاف إلى السلوكيات السلبية الأخرى التي تشهدها الكثير من مدارسنا. وللأسف، لم يحدث لانكشافات الممرضة والدكتور ذلك التفاعل الاجتماعي والرسمي، فظل الصمت الرسمي وكأنَّه يُقِرُ بها، بينما تنشغل وسائل التواصل الاجتماعي التي تابعناها بنرجسيات النُخب، وأطماع مشاهير "السوشال ميديا" في الأموال التي يجنونها الآن من حملاتهم الإعلامية.
وهنا تظهر إشكالية كبرى، فإذا لم تشغلنا مثل هذه القضايا، فما القضايا التي تشغلنا؟ وانكشافات الممرضة والدكتور تُثير مجموعة تساؤلات من الوزن الثقيل لا بُد أن نطرحها بصوت عالٍ؛ أبرزها: كيف خرجت القضايا اللاأخلاقية فجأة للعلن بعد ما كانت حبيسة الأروقة المدرسية؟ أين كان دور هذه المدارس قبل أن تكتشفها الممرضة؟ ماذا فعلت وزارة التربية والتعليم بعد هذه الانكشافات؟ هل كانت الأسر غائبة أو مُغيبة لهذا الحد عن أبنائها؟ هل كان يتوجب على الممرضة أن تلجأ إلى الإعلام لكشف القضايا اللاأخلاقية؟ وماذا تخبئ المدارس من قضايا أخرى من الوزن الثقيل؟
ما كشفته الممرضة والدكتور- تقديم الأسماء حسب خطورة انكشافات كل واحد منهما- يدق ناقوس القلق المرتفع والعام حتى لو كانت الحالات من قبل قلة محدودة. والتساؤل الأكثر شغفًا هو: لماذا تم اللجوء إلى الإعلام لنشر هذه الانكشافات الحساسة جدًا؟ لأنَّ هناك الكثير قد يتحفظ على خطوة الممرضة في اللجوء إلى الكشف عن بعض الوقائع كواقعة التحرش مثلًا، خاصة وأنها حالة استثنائية، ولا يمكن تعميمها أبدًا في مجتمعنا، وهي لا تحدث أبدًا إلا في حالة وجود خلل في الروابط العائلية، وتعميمها لقضايا التحرش والاغتصابات بصورة عامة يحتاج لفتح ملفها عاجلًا؛ لأنها قضايا لا يُسكت عنها، وخروج الممرضة لمخاطبة الرأي العام بهذه القضايا، يعطينا الانطباع الأول، أنها صرخة في الفضاء الواسع والمفتوح، إن لم تحرك الفضاء الضيق، إلا إذا كان وراؤه دواعي الظهور الإعلامي.
وحتى هذه الأخيرة نضع تحتها مجموعة خطوط كبيرة؛ لأنَّ السياقات التحليلية تطرح التساؤل التالي: كيف بزيارة واحدة لمدرسة من قبل مُمرضة أن تتمكن من اكتشاف وبسهولة قضايا اللاأخلاقية في سن البراءة والطُهر والنظافة أو في سن الشباب، وفي نفس الوقت تعممها؟ لذلك نرجح مسوغات نشرها في الفضاءات الواسع كصرخة بعد أن عجزت الممرضة عن إسماع صوتها؟
وعلى خلفية صواعق هذه الانكشافات، وجدتُ من الأهمية الوطنية فتح مسارات مهمة، قد تساعدنا في تجنب حدوث مثل هذه القضايا الخطيرة، وجعل الكشف عنها مُبكرًا ديناميكية تلقائية، ويكون اكتشافها في التوقيت المناسب بين الأسر والمدارس دون نشر الغسيل عبر الفضاءات الواسعة؛ أبرزها:
أولًا: "الأخصائي الاجتماعي".. هناك نص قانوني بضرورة تعيين أخصائي اجتماعي في كل مدرسة يزيد عدد طلابها عن 500 طالب، فهل ذلك مُفعّل؟ وهل في كل مدرسة أخصائي اجتماعي مؤهل وفاعل؟ وهذا دوره بالتعاون مع دور المعلم الذي ينبغي أن لا يكون تفرّغه للعملية التعليمية تخصصًا حصريًا، وقضايا التربية والتعليم تكاملية لا تنفصل، مهما كانت التخصصات، فالكل مسؤول عن قضية الانكشافات الأخيرة.
هنا لا نبرئ المسؤولية المتعاظمة التي تقع على عاتق الأُسر، فهل يُعقل أنها لم تلاحظ أو ترصد تغييرات سلوكية على أطفالها وشبابها حتى تأتي الممرضة للمدرسة وتكتشفها في أول زيارة لها؟ إلّا إذا كان وراؤها استدعاء من قبل المدرسة، وحتى في هذه الحالة، هل بلّغت الأسر أولًا؟
والاستنتاج ذاته لانكشافات الدكتور مع أحد الأبناء في قضية الإدمان؟ أين دور الأسرة من مثل هذه القضايا؟ بل أين دور الجهات الحكومية المسؤولة عن اكتشاف عدد من حالات مرض الإيدز.. وفق رواية الممرضة؟
قبل هذه الانكشافات الصاعقة، رصدنا أطفالًا في سنوات الرابعة والخامسة يلعبون في الشارع بقرب منازلهم أو قرب المحلات التي في حييهم من العصر وحتى العاشرة ليلًا، تتبعنا هذه الظاهرة بصورة شبه يومية، ووجدناها متكررة، فماذا سيكون انعكاسات الشارع ومحلات الوافدين التي غزت الأحياء السكنية على هؤلاء الأطفال في سنٍ مُبكرة؟ وظواهر الشباب الذين يسهرون في الشوارع والمقاهي ومحلات الألعاب الإلكترونية حتى منتصف الليل والصباح.. من المسؤول عنهم؟!
طبعًا الأسرة والبيئات المولِّدة للإحباط التي قد نجدها في سياسات معينة أو قوانين محددة، كقانون السماح لمحلات الألعاب الإلكترونية بالعمل حتى الصباح، وإقامتها داخل المدن، والمسؤولية الكبرى طبعًا على الأسرة، وقد نجد وراءها جنوح بعض الآباء نحو التعددية الزوجية، وترك الأبناء دون أدنى مسؤولية عنهم، وهذا الاستنتاج من خلال تعرفنا على حالات غرقت في المخدرات نتيجة هذا السلوك رغم شرعيته.
إننا نُطالب بتفعيل دور الأخصائي الاجتماعي المؤهّل، وجعل دوره محوريًا في العملية التربوية في المدارس، حتى لو تطلب الأمر أن يكون في كل مدرسة أكثر من أخصائي، لاكتشاف الحالات في وقتها، وتفادي تأثيرها داخل المجتمع المدرسي، وصناعة علاقة تفاعلية مع الأسر.
ثانيًا: إعادة أو تفعيل مبادرة التربية الإسلامية/ الأخلاقية ضمن المقررات المدرسية لبناء الشخصية الوطنية والقيمية المتوازنة، للتكامل مع دور الأسر التي ينبغي العمل عليها وفق برامج توعوية مختلفة لمواجهة مخاطر اللامبالاة بقضايا التربية بصورة شفافة، وربطها بالمدرسة بصورة تفاعلية من خلال دور الأخصائيين الاجتماعيين في المدارس خاصة ونحن نمر بمنعطف خطير من فضاء مفتوح ووسائل اتصال حديثة لها التأثير المباشر على أبنائنا الطلبة، ومن تجار للمخدرات ومن الساعين لنشر الرذيلة، وكلها تحتم عودة قوية لمبادرات غرس القيم والأخلاق من المنظور الأيديولوجي للمجتمع.
وطبيعة القضايا التي تواجه مجتمعنا العماني لن تنحصر في قضايا المخدرات والجنس.. وإنما كذلك الأفكار الشاذة والدخيلة كالإلحاد والنسوية.. إلخ؛ لذلك يظل التحدي الأكبر الآن يكمن حول كيفية حماية مدارسنا وجامعاتنا خاصة، ومجتمعنا عامة من مثل تلكم المشكلات الخطيرة؟ طبعًا لن يكون الحل في استمرارية الواقع الراهن كما هو، وإنما علينا التفكير العميق والمكثف من قبل المختصين من مختلف الحقول العلمية، والتوصل الى حلول تتعاون كل الجهات في الدولة على تطبيقها ومتابعة نتائجها.
وقد خصصنا الحقل التعليمي بمرئية تفعيل دور الأخصائيين الاجتماعيين وزيادة عددهم مع الانتقاء في اختيارهم بعناية، وكذلك مبادرة التربية الأخلاقية وإيجاد منصة تفاعلية مع الأسر، كتفاعلية منَّا مع انكشافات الممرضة والدكتور، ونطالب المديريات العامة لمديريات التربية والتعليم في المحافظات بالتعاون مع المجالس البلدية واللجان الاجتماعية ومجالس الآباء والأمهات، لكي تتحرك بصورة جماعية لمعرفة الوضع في مدارس كل محافظة، وإعداد خارطة بالقضايا والسلوكيات السلبية في المدارس، والعمل عليها لدواعي الحل قبل أن تستفحل في المجتمع المدرسي، ومن ثم المجتمع، خاصة بعد ما مُنحت المجالس البلدية واللجان الاجتماعية في كل ولاية صلاحيات حل الظواهر السلبية في الولايات عن طريق الشراكة.