النهج الجديد لاقتصاد المحافظات

 

د. يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

 

لا يخفى ما يمر به العالم من تحولات كبيرة ومُتسارعة في مختلف الجوانب فنعيش بين الفينة والأخرى شيئاً من الأوبئة "جائحة كورونا" وشيئاً من تغيرات مناخية "شاهين" وشيئاً من حروب "روسيا وأوكرانيا" وغيرها من الأحداث التي تلقي بظلالها على سلاسل الأنشطة الاقتصادية وتفرز واقعا جديدا يتسم بالضبابية ودرجة من عدم اليقين وعدم والضوح؛ الأمر الذي أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم وارتفاع الأسعار، وانخفاض الاستثمار  بشكل واضح.

عُمان ليست في معزل عن كل هذه التغيرات، خاصة وأنها تمر بمرحلة مهمة في مسيرتها التنموية، تستوجب تحولات نوعية عميقة في طبيعة وتركيبة نموذجها الاقتصادي، بما يولّد فرص عمل للأعداد المتزايدة من أبناء وبنات هذا الوطن، وكذلك تعظيم الاستفادة مما تم بناؤه من بنية أساسية وبشرية وتوافر الموارد الطبيعية في كل شبر من هذه الأرض الطيبة. ويتفق الكثيرون على أن استغلال المزايا النسبية للولايات والمحافظات، أمر لا مناص منه وقد أفردت له رؤية المستقبل "عمان 2040" مساحة واسعة وهناك توجه استراتيجي صريح نحو اللامركزية وإعطاء مساحة كافية لمتخذي القرار في المحافظات في الجوانب الادارية والاقتصادية والمالية والاستثمارية؛ لتمكينه من تحقيق غايات هذا التوجه، والذي يأتي منسجمًا مع توجهات الرؤية الأخرى، والتي تنادي بالإنتاج والتصنيع والتصدير وتمكين الشركات المحليه والأجنبية من العمل وفق بيئة عمال وتكاليف تشغيلية مؤاتية.

هناك الأبعاد الاجتماعية والرياضية والخيرية والاقتصادية المتعددة لتنمية المحافظات، لكن سأقتصر الحديث في هذه السطور على بعض الأفكار التي من شأنها أن تحقق المبتغى من هذا التوجه، وبالتحديد في كيفية تعظيم الاستفادة من المزايا النسبية لكل محافظة وولاية. وللتركيز سأتحدث عن مبادرة واحدة فقط تختص بتبني إطار تنفيذي لإنشاء شركات مجتمعية في كل محافظة، بحيث تقوم هذه الشركات بدراسة إمكانيات واحتياجات الولايات التابعة لها من حيث المشاريع المقترحة لكل منها، وبهذا فإن هذا النهج سيعمل على المساهمة في تحويل السلطنة إلى ورشة عمل وإنتاج وتصنيع لتلبية الطلب المحلي والتصدير. وعلى الرغم من وجود الكثير من الهواجس لدى أفراد المجتمع والحكومة والشركات حول هذا النموذج، إلّا أنه من المهم إعطائه الفرصة، وتمكينه بالأدوات المناسبة؛ لينجح فيما قد يحققه من تحولات كلية في النموذج التقليدي الحالي القائم على الاستيراد والعمالة الرخيصة وتصدير المواد الخام، إلى نموذج مختلف يحقق الاستدامة ويولِّد الوظائف ويرفع من وتيرة حركة دورة الأنشطة التجارية المحلية، ويزيد من مُضاعفة الاستثمار والاستهلاك المحلي. لا أدعو هنا إلى الفكر الاشتراكي القديم الذي أثبت عدم نجاحه مع امتلاك الحكومة لهذه الشركات أو حتى المساهمة فيها من المال العام، وإنما دورها في عملية التأطير وحشد الهمم وإنضاج القناعات وترتيب الأوراق المبعثرة لهذا المسار الاستراتيجي وحوكمته بما يخدم تحولات المرحلة ونقل عمان واقتصادها إلى مرحلة جديدة تفرضها الظروف التي يعلمها الجميع.

وهناك 4 اشتراطات يجب توافرها لينجح اقتصاد المحافظات من خلال الشركات المجتمعية.

أولًا: إنضاج القناعات لدى الجميع (أفراد المجتمع، الكيانات الحكومية، الشركات) بأننا ماضون قدمًا في هذا التوجه، ونحشد له الهمم من خلال توعية وخطاب إعلامي يوضح أهميته ومبرراته وفوائدة للجميع.

ثانيًا: تعزيز القدرات العلمية والمهنية والخبرات والمهارات للقائمين على إدارة هذا المسار بدءًا من المحافظين والمعنيين بتحقيق هذا التوجه، كما يجب اختيار شخصين من كل محافظة (الرئيس التنفيذي والمراقب المالي) وإخضاعهم لبرامج تدريب وتأهيل متقنة ليستطيعوا إدارة دفة هذه الشركات وتكوين الفريق المطلوب (ضرورة بناء مجلس إدارة محترف على درجة عالية من الكفاءة إداريا وفنيًا، لأن إدارة الشركات عملية معقدة تتشابك وتتداخل المتغيرات المؤثرة فيها، وتتميز بدرجة عالية من الديناميكية، ولذلك يجب أن تكون الإدارة قادرة على التعامل مع المتغيرات المختلفة وفق مبدأ استثماري متبصر يعمل على تحقيق التوازن المطلوب، وربط الاستثمارات مع الحاجات الفعلية للمجتمع)، وهنا دور مهم للأكاديمية السلطانية للإدارة.

ثالثًا: تحديد الفرص والقطاعات محل التركيز لكل ولاية وهناك يمكن الاستعانة بكنز المعلومات والإحصاءات المتوفر لدى المركز الوطني للإحصاء والمعلومات والمتوفر في الاستراتيجيات الوطنية للتنمية العمرانية وغيرها ونؤكد هنا أن أهل مكة أدرى بشعابها وأهل المحافظات والولاية أدرى بمزاياها النسبية ومكامن قوتها ولديهم من الأفكار ما يكفي لبدء أنشطة هذه الشركات. والطموح بالبدء بـ11 شركة لـ11 محافظة، وبعدها الانتقال لتأسيس هذه الشركات في الولايات وبحسب الحاجة؛ الأمر الذي يحقق تحولا في تركيبة القطاع الخاص ويعزز من الحراك الاقتصادي والتنافس المحمود بين المحافظات والولاية المختلفة.

رابعًا: من المهم إيلاء موضوع الحوكمة بمعناها الواسع لهذه الشركات أهمية كبيرة لضمان عدم تضارب المصالح والمنافسة والقبلية وتشتت الموارد وسطحية الأعمال والنتائج وإيجاد إطار يضمن عدم التباين بين المشاريع المنفذة في الولايات والمحافظات، وفق معايير واضحة تضمن نجاح كل مشروع. وهنا نشير الى أهمية إيلاء الأجهزة الحكومية ذات العلاقة (مثل هيئة تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وجهاز الاستثمار العماني) الاهتمام والدعم المطلوبين. وكغيرها من  المبادرات تحتاج الشركات المجتمعية والتي هي فكرة نابعة من المجتمع وتنفذ من خلال المجتمع وتعود بالنفع على الجميع، تحتاج إلى متابعة وتحسين مستمر، خاصة في السنوات الأولى، وهنا يجب على المحافظ والقائمين عليها اللقاء بشكل شهري بإدارة هذه الشركات والشركات المحلية بشكل عام؛ لتسهيل العقبات وتقديم الدعم المطلوب إذا أردنا تحولا حقيقيا لتركيبة الاقتصاد والوظائف والدخول.

ومن شأن نجاح مبادرة الشركات المجتمعية أن تحقق العديد من الغايات من بينها تعزيز الشعور بالانتماء والتكامل بين أفراد المجتمع وتعزيز ثقافة العمل الخاص، القدرة على تعبئة مدخرات الأهالي وتوجيهها نحو تمويل مشروعات القطاعات الإنتاجية، وتخفيف العبء المالي والتنظيمي الملقى على عاتق الحكومة، وتحقيق التفاعل الإيجابي لعدد من المساهمين متنوعي الخبرات والمهارات؛ الأمر الذى يعظِّم الاستفادة منها في مختلف أنشطة الشركة التسويقية والإدارية والمالية وكذلك تنوع الأفكار والرؤى والابتكارات.

وبقي أن نقول إننا ما زلنا أسرى التقليدية والتقوقع في نماذج وأفكار قديمة، لن تحقق النقلات النوعية والوظائف والدخول والقفزات الاقتصادية التي يرنو إليها أفراد وشركات المجتمع العماني وإننا نحتاج إلى الإرادة والإقدام والمبادرة، ويجب نؤمن أن الانتقال إلى طور وآليات جديدة للنمو ضرورة وليس خيارًا، وأن الشراكات المدروسة من خلال الشركات المجتمعية والمحلية والأجنبية بما يمكن الإدارة الذكية للموارد وربط نقاط القوة والمقومات في المحافظات والولايات ضرورية لخلق واقتناص الفرص قاعدة أساسية لتوسيع الإنتاج، وخلق فرص عمل.

ونختم بالقول، إن عُمان لن تُبنى إلا بسواعد أبنائها، وإن التنمية الإقليمية ونهج اللامركزية يتيح فرصة مهمة لتحقيق تحولات نوعية في المرحلة المقبلة.