مدرين المكتومية
تتزايد يومًا تلو الآخر الشواهد التاريخية على الجذور العميقة للحضارة العُمانية، وأحد أبرز هذه الشواهد النصب التذكاري للبحار الصيني المسلم "تشنغ خه" الذي احتُفل بوضع حجر الأساس له في صلالة أمس، وتحديدًا في منطقة الحافة التاريخية.
فهذا البحار الذي جاب المُحيطات، رسى بأسطوله العملاق في ظفار قبل 600 سنة تقريبًا، وعزز من قوة العلاقات التجارية بين عمان والصين، في زمن لم تكن دول العالم وقعت على اتفاقيات للتجارة الحرة أو مذكرات تفاهم للتبادل التجاري ولا حتى اتفاقيات استثمارية لمشاريع واعدة، لكنها وحدها فقط صفات النُبل والكرم والإخاء لدى الإنسان العماني على مر العصور هي التي مثلت العهد والميثاق في علاقته مع الآخر، الذي يرسو على شواطئ عمان الخلابة منذ أن استعمرها الإنسان، ويتضح ذلك جليًا من الرحلات التي قام بها هذا البحار الصيني إلى ظفار، حيث وقع أسيرًا لجمال الطبيعة العُمانية، وتعلقت روحه بروعة الروائح التي تفوح من اللبان الظفاري وشتى أنواع البخور التي تشتهر بها عُمان، ولنا أن نعلم أن هذا البحار الذي جاب المحيط الهندي بأكمله 7 مرات على مدى ما يزيد عن 28 عامًا ورسا في 36 دولة، قد زار ظفار 4 مرات، ما يؤكد حرصه على أن تطأ قدماه هذه الأرض الميمونة، بكل ما تزخر به من خيرات.
ولا شك أن إقامة نصب تذكاري في صلالة يسهم في تخليد ذكرى هذا البحار الصيني، الذي ساعد البلدين على تعزيز التبادلات التجارية، ورسخ لمكانة عُمان كواحدة من الدول ذات الحضارات القديمة، الأمر الذي يؤكد ما تحقق للإنسان العماني من مكانة مرموقة بين الأمم قديمًا وحديثًا. ومما يبعث على الفخر بهذا المشروع أنه يتزامن مع اقتراب الاحتفال بمرور 45 عامًا على العلاقات العمانية الصينية في العهد الحديث، والأهم أن وضع حجر الأساس يأتي قبل أيام من الاحتفال بالعيد الوطني الثاني والخمسين المجيد، ولعل من روائع الأقدار أن تكون صلالة موقعًا لهذا النصب، وأيضًا ساحة لإقامة العرض العسكري السنوي بمُناسبة العيد الوطني، والذي سيقام برعاية سامية من لدن حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه يوم 18 نوفمبر.
لقد نجحت عُمان في إقامة علاقات ثنائية مع مختلف دول العالم، بفضل ما يتميز به الإنسان العماني من صفات حميدة، تأسر كل من يتعامل معه، فيجد فيه الشهامة والمروءة والنخوة والكرم، وغيرها من الأخلاق الطيبة التي يتحلى بها كل عماني منذ الأزل.
وإقامة نصب تذكاري لشخصية أو كيان ما في أي دولة يُؤكد متانة العلاقات بين الدول، فقد سبق أن شيدت سلطنة عُمان نصبًا تذكاريًا لسفينة صحار التاريخية التي مخرت عباب البحر من عُمان إلى مدينة جوانزو الصينية قبل ما يزيد عن 1300 سنة، أي حتى قبل أن يضع تشنغ خه قدمه في ظفار بأكثر من 700 سنة؛ الأمر الذي يبرهن بقوة على عمق العلاقات بين عمان والصين.
إن توظيف العلاقات الدبلوماسية الطيبة بين الدول من أجل توطيد مجالات التعاون، يسهم في تحقيق العديد من المصالح المشتركة لكل الأطراف، خاصة إذا ما توحدت الأهداف والغايات، وتوافقت الرؤى حيال العديد من الملفات والقضايا، وسارت وجهات النظر في مسارات متوازية، تقديرًا للآخر واحترامًا للفوارق الثقافية والاجتماعية وغيرها، لذلك يمكن القول إنَّ عُمان ماضية في طريقها القويم نحو مزيد من العلاقات القوية مع مختلف بلدان العالم، القريبة منها والبعيدة، فلم تكن المسافات يومًا عائقًا أمام بلوغ التطلعات.