البحار الصيني المسلم الذي الذي جاب المحيطات وعزز العلاقات العُمانية- الصينية

تشنغ خه.. الرسول الإمبراطوري و"شمس الدين" إلى العرب

◄ تشييد نصب تذكاري للبحار الصيني المسلم في صلالة.. 8 نوفمبر

◄ أصول تشنغ خه تعود لأسرة مسلمة في الصين ذات سمعة سياسية بارزة

◄ الصين تعتبر تشنغ خه شعارًا ورمزًا للتسامح الديني

◄ التحق بالجيش وشارك في حملات عسكرية ضد المغول

◄ تقلد العديد من المناصب وأجرى 7 رحلات بحرية بأمر من الإمبراطور الصيني

◄ قاد أسطولًا وُصف بأنه الأضخم في العالم في القرن الخامس عشر

◄ نشر السلام والاستقرار في المنطقة الممتدة من الصين إلى شرق أفريقيا

◄ ساهم في تجديد الإبرة المغناطيسية ورسم خريطة العالم الأولى

◄ أوفد بعض المسلمين إلى مكة لأداء فريضة الحج

◄ كانت وفاته بداية لعصر انغلاق الصين على نفسها في تلك الفترة

الرؤية- عبدالله الشافعي

قبل 600 عام، برز اسم البحار الصيني المسلم "تشنغ خه" والملقب بـ"حجي محمود شمس الدين" كما يعرفه العرب، وكان له دور بارز في تعزيز التجارة الصينية العمانية، فقد كان يسيّر الرحلات البحرية إلى قارتي آسيا وأفريقيا والخليج العربي والبحر الأحمر، وقد حطَّ الرحال في ظفار ومعه منتجات متنوعة من الحرير والمجوهرات والعقاقير الطبية التي كانت تشتهر بها الصين في ذلك الوقت.

وتكريمًا للدور الكبير الذي لعبه "خه" قديمًا، تعتزم سفارة جمهورية الصين الشعبية في سلطنة عُمان، وضع حجر الأساس للنصب التذكاري للبحار الصيني المُسلم بولاية صلالة في محافظة ظفار، وذلك بعد غدٍ الثلاثاء 8 نوفمبر.

العلاقات العُمانية الصينية

وبحسب دعوة تلقتها "الرؤية" لحضور المُناسبة، أكدت السفارة أنَّ الهدف من إنشاء هذا النصب التذكاري، دعم علاقات الصداقة بين سلطنة عُمان وجمهورية الصين الشعبية، بما يضمن بناء مستقبل أكثر ازدهارًا، ويُعزز من روابط الصداقة بين الشعبين العماني والصيني.

وكانت سلطنة عُمان قد أقامت في 2018 نصبًا تذكاريًا لـ"سفينة صحار" بمناسبة مرور 40 عامًا على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين السلطنة وجمهورية الصين الشعبية الصديقة.

ويأتي هذا النصب التذكاري اعترافًا بمكانة هذا البحار الصيني في توثيق عُرى التعاون والتبادل التجاري بين عُمان والصين قبل ما يزيد عن 6 قرون؛ حيث قام برحلات بحرية بأوامر من الإمبراطور الصيني. وتذكر مصادر تاريخية أن البحار الصيني تشنغ خه قاد أسطولًا- وُصف بأنه الأضخم في العالم حينذاك- مؤلفًا من 27800 شخص، معظمهم من الضباط والجنود والملاحين والمترجمين والعلماء، وضم الأسطول 62 سفينة للبضائع والمجوهرات و700 سفينة للخيول و240 سفينة للمؤن و300 سفينة للجنود و100 بارجة حربية.

النصب التذكاري في صلالة.jpeg
 

لم يكن البحّار الصيني مجرد تاجر يزور البلاد خلف البحار والمحيطات، فقد حمل رسالة سلام حتى لقب بـ"رسول المهمات الدبلوماسية ورجل السلام"، كما أن الصين احتفلت عام 2005 بمرور 600 عام على أولى رحلاته الضخمة التي عبر بها المحيط، وكان من أهم أقواله: "في سبيل إقامة العلاقات الودية بين الصين وهذه الدول لا نعبأ حتى بالموت".

ميلاده ونشأته

ولد تشنغ خه عام 1371 ميلادية في مقاطعة يونان بجنوب غرب الصين، واسمه الحقيقي (ما خه)، وتعود أصوله لأسرة مسلمة من عرقية الهوي الصينية، والتي حكمت مقاطعة يونان في حقب سابقة. وتشير مصادر تاريخية إلى أن أسرة خه تنحدر من الحاكم المغولي شمس الدين عمر، واشتقت العائلة اسمها "ما" من الترجمة الصينية لاسم رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم.

كان لعائلة خه وضع سياسي مميز خلال عصر أسرة يوان المغولية؛ وكان جده الأكبر يدعى بايان وكان يشغل منصبا في جيش المغول في يونان ويحمل اللقب حاجي، في حين أن والده كان يحمل لقب المملوك وكذلك لقب الحاج، مما يوحي بأنهم قاموا بالحج إلى مكة.

وفي عام 1381م، قام جيش مينغ بغزو مقاطعة يونان وتوفى والده في نفس العام، ووقع خه أسيرا وضُمَّ إلى بلاط أسرة مينغ، ثم أرسل للعمل في منزل تشو دي أمير يان وحصل على تعليم مناسب واكتسب ثقته والتحق بالجيش على الحدود الشمالية وشارك في العديد من الحملات العسكرية ضد المغول.

ارتفعت مكانة تشنغ خه وتقلد مناصب عليا وتم تعيينه مديرا عظيما وأسندت له وظيفة كبير المبعوثين خلال رحلاته البحرية، كما أنه أجرى 7 رحلات بحرية نيابة عن الإمبراطور، لكن أثناء إحدى رحلاته إلى سومطرة مات الإمبراطور وتوقفت الرحلات البحرية في عهد ابنه.

تقول بعض الروايات التاريخية إن تشنغ خه سافر إلى مكة رغم أنه لم يقم بفريضة الحج، كما أن مقبرته تم ترميمها على أسلوب إسلامي، وتعتبره الصين شعارا لدمج الأقلية المسلمة للأمة الصينية ورمزا للتسامح الديني.

رحلاته البحرية

مع بداية القرن الـ15 كان هناك تطور ملحوظ في قدرات الصين البحرية، وكانت تستعرض قوتها فيما وراء البحار، وقررت أن تجوب سفنها المحيطات وتم اختيار تشنغ خه ليكون مسؤولا عن تنفيذ هذه الرؤية لاستعراض وقيادة الأساطيل.

لقبت رحلاته بـ"رحلات الكنز السبعة، حيث زار أكثر من 50 بلدًا وقطع أكثر من 296 ألف كيلو متر، ورسم 41 طريقًا بحريًا، وكانت الصين حينها تمتلك أكبر قوة بحرية في تاريخها، وباع الصينيون خلال هذه الرحلات بضائعهم مثل الذهب والفضة والمخمل والحرير والصيني والأرز والفلفل وخشب الصندل والصمغيات.

زار خه في رحلاته الثلاث الأولى جنوب شرق آسيا، الهند، وسيلون (سيريلانكا) وكانت الرحلة الرابعة إلى الخليج العربي ونزل إلى ظفار وشبه الجزيرة وأوفد مسلمون إلى مكة وزار مصر. ثم جازفت الرحلات البحرية التي بعدها بالتوجه إلى أسفل الساحل الأفريقي الشرقي إلى ماليندي التي تعرف الآن باسم كينيا، ثم قام تشنغ خه خلال رحلاته بتوزيع الهدايا والعطايا الصينية المكونة من الحرير والخزف وبضائع وسلع أخرى. وفي المقابل حصل تشنغ خه على هدايا غير عادية من مستضيفيه ومنها الحمير الوحشية الأفريقية والزرافات والتي وضعت في حديقة الحيوانات الإمبراطورية لمينغ، فكان أول من جلب الزرافة من الصومال إلى الصين.

ولم يكن طريقه البحري سهلا، فلقد واجهه الكثير من القراصنة ممن أفسدوا المياه الصينية والجنوب شرق آسيوية، فواجههم بشدة وقضى عليهم، وصنع عروضا لقوته العسكرية عندما هدد مسؤولون محليون أسطوله في بلاد العرب وشرق أفريقيا.

وتقول الروايات، إن خه اصطحب في رحلته البحرية الرابعة المبعوثين من 30 ولاية سافر إليها وأحضرهم إلى البلاط ليظهروا احترامهم لمينغ، كما أنه نقل عددا من مسلمين الصين إلى ملقا وسومطرة وسورابيا في إندونيسيا وأماكن أخرى، وأصبحت ملقا مركزا تعليميا إسلاميا وأيضا مركزا تجاريا إسلاميا ضخما للمناطق الجنوبية، قبل أن يقرر الإمبراطور الهونجزي الذي حكم من 1424 إلى 1425 وقف الرحلات البحرية.

توفي تشنغ خه خلال رحلة سفن الكنز الأخيرة، وله قبر "فارغ" في الصين تم ترميمه وفق الطراز الإسلامي.

إسهامات أخرى

لم تتوقف إسهامات البحار الصيني الشهير عند قيادة الأساطيل في البحار والمحيطات، بل امتلك مهارات أخرى وكانت له إسهامات في مجالات متنوعة، حيث ساهم في تجديد الإبرة المغناطيسية ورسم خريطة العالم الأولى وإيفاد بعض المسلمين إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج وتوصية السيد في شين والسيد ما هوان- العالمين المسلمين- بتدوين مشاهداتهم على امتداد الرحلات البحرية، والاتصال بعامة الشعب من المسلمين وغير المسلمين على نطاق واسع.

ويقول بعض المؤرخين، إن تشنغ خه ساهم في نشر الإسلام في العديد من المناطق، وأن أعدادا كبيرة أسلمت على يديه خصوصا من أبناء شرقي أسيا، وانتشروا في إندونيسيا وماليزيا وبروناي، وأطلق اسمه على عدة مناطق اعتزازا به وبالدور الذي قام به.

  رسول الدبلوماسية

أولى تشنغ خه حرصًا لتوطيد العلاقات مع الشعوب التي تصل إليها سفنه، ولم يكن يهتم بفرض السيطرة أو التجارة فقط، بل استهدف بناء الصداقة بين الشعب الصيني والشعوب الأخرى، ليؤسس لتبادلات اقتصادية وثقافية ضخمة. كما ساهم خه في تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة الممتدة من الصين إلى شرق أفريقيا، وعمل على حماية الرجلات البحرية من القراصنة الذين سرقوا ونهبوا وقتلوا الكثيرين أثناء عمليات السطو على السفن التجارية.

 وكان لما فعله خه الأثر الكبير والانطباع الجيد في نفوس الشعب الصيني والشعوب الآسيوية، وكانت تحكى سيرته للأجيال الصغيرة.

أفول الشمس!

في سنوات عمره الأخيرة اختار تشنغ خه الاستقرار والعزلة في جينغهاي عند أسفل جبل شيتسي بمدينة نانجينغ حتى وفاته عام 1435 وهو في الـ65 من العمر.

وكان موت تشنغ خه بمثابة انتهاء عصر الاستكشاف الصيني وانغلاق هذه الدولة العملاقة على نفسها، فقد أصبح المسؤولون الصينيون وقادة الحكم في الصين انعزاليين على نحو متزايد، كما إنهم أوقفوا جميع الرحلات البحرية، ودمروا العديد من السجلات التي توثق رحلات خه وضاعت معها كثير من تفاصيلها.

كما إن المسؤولين في الحكم بعد ذلك الوقت، حظروا بناء السفن العابرة للمحيطات؛ لتنتهي رحلات "أسطول الكنز"، الذي زار بقيادة تشنغ خه أكثر من 36 دولة خلال 28 عاما.

أسطورة تاريخية

كتب تشنغ خه عن رحلاته فقال: "لقد سافرنا أكثر من 100 ألف لي (وهو ما يعادل خمسين ألف كيلومتر) من مساحات البحر الهائلة، وشاهدنا في المحيط أمواجاً عظيمة كالجبال ترتفع إلى السماء، ولقد وقعت أنظارنا على مناطق بربرية بعيدة مخبئة تحت أبخرةٍ زرقاء خفيفة وشفافة، بينما كانت أشرعتنا تُنشر مثل الغيوم ليلاً ونهاراً مواصلة سيرها بسرعة النجوم، مخترقة تلك الأمواج الوحشية، وكأننا كنا نمشي على طريق عام".

وإلى الآن، تفخر الصين بهذا البحار العظيم الذي كان يقوم بدوري تجاري ودبلوماسي كبير، واستطاع أن يكون موفدا للإمبراطورية في كل البلاد لاكتشاف أراضٍ جديدة، فكان نموذجا مختلفا عن النماذج الاستعمارية وحمل السلام لكل العالم ولم يرتكب أي أعمال عنف في حياته.

كما أن علماء الدين في إندونيسيا عبروا عن تقديرهم لما قام به خه خلال رحلاته البحرية ودوره في نشر الإسلام في بلادهم، وفي عام 2005 احتفلت إندونيسيا بذكرى مرور 600 عام على انطلاق تشنغ خه في رحلاته البحرية ببناء مسجد يحمل اسم "حجي شمس" في مدينة سورابايا في جزيرة جاوة الإندونيسية.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة