المقامة العربية (5)

 

سعيد المغيري

الفقرة الخامسة

بعزيمة لا تقبل التثبيط، مرت رحلة ابن المهاب كالشريط، وبعد إجراءات غلب عليها التبسيط، أكمل رحلة بدأت بالخليج وانتهت بالمحيط، فأزيح بذلك رداء الترحال وأميط، ولُبس ثوب الاسترخاء والتضبيط.

 

وفي المطار، ودون أي انتظار، لقي مسلم صاحبه أبا عمار. وبعد طول الأسفار، اجتمع أخيرا الأخيار. وبعد لقاء حار تبادلوا فيه مقتضب الأخبار، وادخروا باقي الكنوز والأسرار للّيل وما يخبئ من أسمار، قال ابن المهاب بنبرة فيها مزاح واستعجاب: "يا أخي صارحني في الجواب، وقل لي صحيح الخطاب. بالله كيف تجدّد فيك الشباب؟ وتفرض دوماً حضورك الخلاب؟ ونحن ربعك ومن الأصحاب، هكذا صرنا في ركب الشياب!"

 

فقال أبو عمار: "من يوم يومك عيار. عجباً لك كيف تحتار في أمر أنت فيه مستشار؟ ولكن إن كان الجواب مني مطلوب: فالشباب يطول حين نُصفّي القلوب، ولا نبكي على المسكوب، ولا نخاف من المكتوب. ثم بعد ذلك ترتحل وتجوب، وتمضي في شتى الدروب."

 

فقال ابن المهاب: "إذا هيّا نجدد الشباب، ونستحث إلى ما نحب الذهاب."

 

وهكذا انطلق الاثنان بحماس وعنفوان. وفي الطريق، قال ابن المهاب وهو يتنهد: "الدار البيضاء على العهد، أحلى من الشهد. يا أبا عمار، صديقك ليس بمجهَد، فمن يتذكر ما للجمال من مشاهد، يقول سر بنا إلى تلك المعاهد، التي كانت للسرور شواهد."

 

فقال أبو عمار: "الشوق فيك عارم، والحنين في وجدك يتعاظم. لك البحر يا هائم، حيث لطيف النسائم وجلسة الصحب الأكارم."

 

فقال مسلم: "وأنا (راني) مشيت يا أبا عمار، للحب اللي ما خلانا صغار، ولا تركنا ونحن كبار!"

 

وبعد السير في طرقات كانت علامة في التشجير والتخطيط، وصلوا بالسلامة إلى شارع المحيط. ومن هناك اتجهوا صوب الشمال، إلى جوهرة الجمال، وجامع يفوق الخيال.

 

عندها قال ابن المهاب: "بصرحِه السابح فوق الماء، ومئذنته التي تعانق السماء، هذا الجامع هو سر ما في الدار البيضاء من رونق ورواء."

 

 وبينما كان الليل يخبئ خلف أستاره القمر، كانت شمس العشية تنحدر، والبراد على الصينية ينتظر. عندها وصل مسلم وأبو عمار جلسة السمر، حيث المكان مطل على البحر، وجامع الحسن الثاني في مرمى البصر. وعن الخبر: فإن لابن المهاب في هذا المكان ذكريات لا تنحصر، وليالي كانت له زهرة العمر؛ فهنا سمع عن كازابلانكا لأول مرة، من فتاة كان حبها سره.

 

في ذلك الجو الشاعري، تذكر ابن المهاب أبيات العلامة الموريتاني، فقال منشداً بمقام يماني:

 

"ألا فاسقني كاساتِ شايٍ ولا تذر بساحَتِها مَنْ لا يُعِينُ علَى السَّمَر"

 

ثم قال: "يا أبا عمار، هات ما كان في مكتوبك من أخبار، ووضح ما حوت رسالتك من أسبار."

 

فتحدث أبو عمار بصوته الرقيق، وأسلوبه الرشيق، فقال: "أذهبت المشاغل ما للأيام من بريق، وفُرض علينا التضييق، فقيل عليك في صرفك التدقيق، ولا تنفق في سوى الرز والدقيق، وادخر الباقي في صناديق، تعينك في وقت الضيق؛ فالعالم يمر بتغير عميق، وهذه سياسات وُضعت للتطبيق. وأنا يا ابن المهاب بطبعي لا أطيق سياسات التخنيق، فقلت أنا وأنت يا صديق، نسلك ما للسفر من طريق؛ فمن مثلك للترحال رفيق؟!"

 

فقال ابن المهاب: "صدقت. همك يا صاحِ تفرّجه الأسفار والتجول في الأمصار. عليك المسار، وعليّ الإبهار."

 

فقال أبو عمار وهو مبتسم الثغر منشرح الصدر: "ننطلق من الدار البيضاء إلى تونس الخضراء مرورا ببلاد الشهداء."

 

وقبل أن ينبس مسلم بكلمة، حدثت فوضة وجلبة، فاستيقظ ابن المهاب من المنام، وقد أُخرج من عالم الأحلام. فقال بغضب واستياء: "حاسبكم رب الأرض والسماء. يا هادمي اللذات ما هذه الضوضاء؟!"

تعليق عبر الفيس بوك